اللوحة: الفنانة الكندية روبرتا موراي
تحكي أسطورةٌ هنديَّةٌ: «إنَّ فأرًا كان في محنةٍ مستمرَّةٍ بسبب خوفه من القطط، فأشفق عليه ساحرٌ وحوَّله إلى قطٍّ، لكنَّه أصبح يخاف من الكلاب، فحوَّله السَّاحر إلى كلبٍ، فبدأ يخاف من النُّمور، وهكذا حوَّله السَّاحر إلى نمرٍ. عندئذٍ امتلأ قلبه بالخوف من الصَّيادين، فاستسلم السَّاحر عند هذا الحد، وأعاده إلى صورته الأولى كفأر، وقال له: “لن يُساعِدكَ أيُّ شيءٍ أفعله، لأنَّكَ تمتلكُ قلب فأرٍ. إذا أردتَ أن تتغيَّر، فابدأ بقلبكَ أولاً”.»
***
أغلب الأديان تمنح معتنقيها نفسية «شعب الله المختار»؛ صاحب العقيدة والإيمان الحق. وهذا يشحن الإنسان بمشاعر التعالي، فلا يوجد فيهم باحث عن الحقيقة؛ لأنه موقن بامتلاكها، فيصبح متعصّبًا.
لو قام باحث برصد موعظة رجال الدين في الإعلام (سني – مسيحي – يهودي – شيعي – هندوسي… إلخ)، فسوف يجد تشابهًا، قد يصل إلى حدّ التطابق في النفسية والعقلية والمفردات.
كثيرًا ما تحاورتُ مع متدينين متعصبين من أديان مختلفة، وأثناء الحوار أتخيل من أحاوره وكأنه معتنق دين مختلف، فلا أجد خيالي يُنتج تغييرًا جوهريًّا. لا أجد فرقًا سوى أنه سيتحوّل من مسلم سني متعصب إلى مسيحي، أو هندوسي، أو شيعي متعصب، وسيدافع عن دينه بنفس القوة.
حين يكون المتدين متفتحًا وباحثًا عن الحقيقة، لن يكون متعصبًا مهما كان الدين أو العقيدة التي يحملها.
مثلما كان الفأر يحمل قلبه الجبان معه في كل تغيير، سوف يحمل الإنسان نفسية «التعصُّب أو الانفتاح» معه في كل تغيير.
ولهذا يُقال للمتدين المتعصب، كما قال الساحر: «إذا أردتَ أن تتغيَّر، فابدأ بالتخلص من التعصب أولًا».
***
لو وقف الإنسان أمام مرآة مقعَّرة أو محدَّبة، فسوف يرى تغيرات متعددة، كما في مرايا الملاهي؛ يرى نفسه سمينًا أو نحيفًا، ولو نظر إلى وجهه لأضحكه ضخامة أنفه، أو ضيق عينيه، أو طول أذنيه. ولو كانت المرآة سليمة، لرأى صورته كما هي.
لو أراد إنسانٌ أن يرى تغييرًا في صورته أمام المرآة، مثل أن يضيف شاربًا تحت أنفه، عليه أن يُطلِق شاربه أولًا، ثم يتوجه إلى المرآة ليرى صورته بشارب.
لكن لو خدع نفسه ووقف أمام المرآة ورسم على صورة وجهه فيها شاربًا، لكان تغييرًا وهميًّا. وبمجرد تحركه أمام المرآة، سيرى نفسه كما هي، والشارب مرسوم على سطحها ولا يتحرك معه. فالتغيير يجب أن يكون في الأصل، لا في الصورة المنعكسة.
كذلك الأفكار؛ الإنسان أفكار، الشعوب أفكار، الحياة محصلة أفكار الإنسان.
لكي تتغير حياة وسلوكيات الشعوب، لا بد أن تتغير أفكارهم. فالمرأة (أو الرجل) التي تؤمن بالسحر والحسد والأعمال السفلية، تفكر كل الوقت في الحذر من أن ينالها هذا الشر، وتنثر الظنون في أصدقائها وجيرانها:
«فلانة حسدتها، وفلانة استعانت بالساحر ونثرت الماء أمام عتبة دارها، وفلانة تستعين بالجان لتؤذيها».
تحيا في علاقات متوترة ونفسٍ متشاكسة ومتعبة. ولو انتقلت هذه المرأة إلى مدينة أخرى، فسوف تحصد نفس التوتر والعلاقات والمشاعر السيئة.
ولا حلّ سوى أن تتغير فكرتها عن الحسد والسحر، حتى تتحسن حياتها وعلاقاتها ومشاعرها.
ولهذا يُقال لمن يريد التغيير، كما قال الساحر للفأر: «إذا أردتَ أن تصلح حياتك وعلاقاتك، فابدأ بالتخلي عن الأفكار المرهقة والضالة.»
***
عقب الحرب العالمية الثانية، عُقد مؤتمر للحلفاء المنتصرين، وكان روزفلت رئيس أمريكا هو نجم المؤتمر. فلولا دخول أمريكا الحرب، لما تمكن الحلفاء من هزيمة هتلر.
طالبت كل الدول بتعويضات من الألمان؛ فالدمار الذي أحدثه هتلر تجاوز كل خيال. قال روزفلت: «أمامكم بقرة، إما لحمها أو لبنها؛ فلا ينفع الاثنان معًا». وصدر في هذا المؤتمر قراران مدهشان: «لا طائفية، لا صراع على الحدود».
فقاموا بحشد جيش هائل من رجال الثقافة والإعلام والرياضة والفنون في كل أوروبا وأمريكا، يعزف الجميع لحنًا واحدًا: «التعددية والتسامح الديني.».
أصبح لدى كل الشعوب الأوروبية والأمريكية أفكار بديهية واحدة عن الإنسان، وحريته، وحقوقه، وبقية القيم الأوروبية الحديثة. ولكن، للأسف، صدَّر الأوروبيون صديدهم الطائفي إلينا، فقاموا بإشعال كل الثغرات الدينية والطائفية في بلاد العرب.
ومنذ ذلك الحين، ونحن الذين نتقاتل ونتعارك ونتدابر من أجل الطائفة والدين والحدود. ولهذا يُقال لعرب اليوم، كما قال الساحر: «إذا أردتَ أن ينتشر السلام والإصلاح، فابدأ بالتخلي عن الطائفية والصراع على الحدود أولًا».
***
الدعاء المتكرر للبنت، أن يكتب لها الله تعالى الزواج، وكذلك نفس الدعاء للولد، وبمجرد الزفاف لا يقتحم أذن الزوجين سوى الدعاء المتطفل بالإنجاب، وأن يكون ذكرا. وحين ينعم الله عليهما بولد، يكون الدعاء التالي أن يؤاخيه، أي يكون له أخ وليس أختًا!
هذه هي الطقوس الاجتماعية المصرية التي تغسل نفسية شبابنا بلا توقف؛ فليس للبنت والولد سوى الزواج. ولو تأخر الأمر قليلاً، لكان القلق والاكتئاب، وفقدان الولد والبنت لاتزانهما النفسي؛ فعصا وعين المجتمع عليهما، ولا يسمح لهما بالتأخر. وهكذا تستمر دائرة إملاءات المجتمع على الزوجين بلا نهاية.
طقوس تتطفل على حياة الناس، وتثقب نفسياتهم وإيمانهم بالرزق؛ فتأخر الزواج عيب، وإنجاب الإناث فقط عيب، وعدم الإنجاب عيب. وهكذا تصبح كل التوقعات والتطفلات من المجتمع عبئًا على الناس.
كل هذه الأمور رزق ونصيب، ولكن هناك من لا يريد/تريد الزواج، سواء نفسيًا أو جسديًا. كيف ينسجم هؤلاء في المجتمع دون تطفل؟
خيارات الإنسان وأقداره تخصه وحده. ولو سمح الإنسان بسكب فضلات المجتمع من الفضول والتطفل على حياته، لكان شقيًّا. ولهذا يُقال لشباب اليوم، كما قال الساحر: «إذا أردت السعادة، فتحرر من فضول وإملاءات المجتمع، وكن حرًّا في خياراتك».
***
عندما يضطرب مزاج الإنسان وتتوه عنه نفسه، يُسارع إلى الطبيب النفسي، ويخلص كل جهد الطبيب في البحث عن الدافع وراء هذا الاضطراب؛ هناك عقدة مختفية وراء ركام وكراكيب متناثرة في العقل الباطن. وبعد أحاديث طويلة، وبوح، وتفتيش في مسالك النفس الخلفية والخفية، يكتشف العقدة.وهذا الاكتشاف يكفي لضمان العلاج. يشرحها للمريض، الذي ينتبه ويفهم، ثم يطرحها عن نفسه، ويحيا حرًّا، ويسترد نفسه وحياته الهانئة.
وهكذا دائمًا، هناك «كلمة سر»، لو نطق الإنسان بها أو عرفها، لفتحت الأبواب المغلقة. كلمة سر يفهمها الحكيم ويهديها للناس، فيطرحوا عن كاهلهم هذه الأثقال بكلمة السر الشافية.
في كل قصة من هذه القصص، وفي كل مشهد من مشاهد الحياة، تَتكرَّر الحكمة نفسها بثوبٍ مختلف: لن يُغني عنك تغيير الشكل ما دمتَ لم تُبدِّل ما في قلبك، ولن تتحرّر من الخوف أو التعصّب أو الوهم، ما دمتَ تحملها في داخلك أينما حللت.
الفأر، والمجتمعات الطائفية، والمرأة التي تخشى السحر، والزوجان المحاصران بدعوات الناس، والشاب المكسور من تطفّل التقاليد، والمريض الباحث عن كلمة سرّ… كلهم في الحقيقة يبحثون عن أمرٍ واحد: التحرّر من الداخل.
فلا التغيير الخارجي، ولا الهجرة، ولا الزواج، ولا الدواء فقط يكفي.
التغيير يبدأ حين تجرؤ أن تواجه نفسك، أن تنظف مرآتك من الخداع، وتفتّش في داخلك لا خارجك. وحينها فقط، لن تعود فأرًا مهما كان الجسد أو الواقع الذي تحيا فيه. ولهذا، كما قال الساحر دائمًا: “إذا أردت أن تتغيّر، فابدأ بقلبك أولًا.”
