اللوحة: الفنان الفرنسي فالنتين دي بولوني
ماهر باكير دلاش

كتب أحدهم حديثًا عن الكاتب، عن الذهب واللهب، وعن تلك المسافة الشفافة التي تفصل بين بريق القول وحرارة الفكرة، بين جمالية الحرف ونبض المعنى. فكان قلمه مرآةً للفكر الإنساني وهو يتأمل في طبيعة الإبداع وسرّ الكلمة. وقد أضاء بنور فكرته مساحةً واسعة من الصمت الذي طالما اكتنف علاقة الكاتب بما يكتب، فالكلمة في نظره كائن حي، يولد من رحم الوجدان ليحيا في عقول الناس.
ولأن الفكر النقي يوقظ الفكر، كان لا بد من الوقوف في حضرة القلم، لا لنرد القول بالقول، بل لنتأمل معًا في ماهية الكلمة، في سرّها، وفي تلك الأمانة الثقيلة التي يحملها الكاتب على أطراف أنامله.
إن القلم، كما قيل، ليس أداة نقشٍ على الورق، بل وسيلة نقشٍ في الوعي. وكل من أمسكه بإخلاصٍ يدرك أنه لا يكتب ليتباهى، بل ليبقى. ولعلّ أعظم ما يميز الكاتب الحقيقي أنه لا يكتب من أجل أن يُصفَّق له، بل لأنه لا يملك أن يصمت أمام ما يرى من دهشةٍ أو وجع. فالكلمة عنده ليست زينةً فكرية ولا نحتًا لغويًا، بل هي شاهدٌ على لحظة صدقٍ عابرةٍ بينه وبين ذاته. ومن هنا تنبع قيمتها؛ لا من لحنها البلاغي، بل من صدقها الإنساني.
كتب أحدهم أن الكاتب يتأرجح بين الذهب واللهب، بين الصفاء والاحتراق، بين الجمال والعنفوان. وهي صورة دقيقة لحقيقة الكاتب؛ فهو دائمًا في صراعٍ بين ما يُرضي حسّه الجمالي وما يُشبع ضميره الفكري. والكتابة، في جوهرها، ليست إلا سعيًا مستمرًا إلى التوازن بين هذين القطبين. فالكلمة التي تُسطَّر بذهب الأسلوب وحده قد تُدهش العين، لكنها لا تُحرّك القلب. والكلمة التي تشتعل بلا انضباطٍ قد تُلهب المشاعر، لكنها لا تترك أثرًا باقياً في الفكر. أما الكلمة التي وُلدت من عقلٍ مستنيرٍ وقلبٍ مؤمن، فهي التي تخلّد لأنها تلمس الإنسان في أعماقه، لا في سطحه.
لقد تحوّلت الكلمة في أزمنة كثيرة إلى سلعةٍ في أسواق الشهرة، يُقاس بها الحرف بكمّ التصفيق لا بقدر الصدق. غير أن الكاتب الحق لا يُساوم على قلمه، لأنه يرى فيه جزءًا من روحه، وسفيرًا عن ضميره. فكل نصٍّ يكتبه هو وعدٌ يقطعه لنفسه قبل أن يقطعه للناس، وعدٌ بأن يظل وفيًّا للحقيقة مهما كانت موجعة، وللجمال مهما بدا بعيدًا. ولذا كانت الكتابة نوعًا من الجهاد الصامت، لا بالسيف ولا بالمنبر، بل بالفكر الذي يقاوم زيف المعنى وجمود الوعي.
الكلمة، حين تخرج من القلب، تشبه المطر في أوّل هطوله؛ تلامس كل شيء وتحييه. ولكن حين تخرج من اللسان فقط، تكون كالغبار، لا يترك أثرًا سوى العتمة. والكاتب الذي يكتب ليُقال عنه “كاتبٌ جيّد” لم يكتب بعد، لأن الكتابة ليست مسابقة في الفصاحة، بل شهادةُ ميلادٍ جديدةٍ لمعنى منسيٍّ في داخل الإنسان. ومن هنا، لا يُقاس الكاتب بما يملكه من مفردات، بل بما يوقظه من أسئلة. فالسؤال أبلغ من البيان، والدهشة أعمق من البراعة.
إن الذي يكتب، إنما يُخاطر. يخاطر بأن يكشف وجهه الحقيقي في كل سطر، وبأن يترك جزءًا من نفسه في كل نص. وربما لهذا السبب كان القلم في أيدي الصادقين سلاحًا وشفاءً معًا؛ يجرح ليطهّر، ويهزّ ليوقظ. فالكاتب، في أعمق جوهره، ليس واعظًا ولا خطيبًا، بل شاهدُ عصرٍ يدوّن وجعه كما يُدوّن حلمه. ومن يقرأه لا يبحث عن دروسٍ جاهزة، بل عن مرآةٍ يرى فيها ذاته وقد لبست ثوب اللغة.
لقد كتب أحدهم أن الكلمة التي تُكتب بصدقٍ تملك من الخلود ما لا تملكه صروح الملوك. وهي حقيقة لا يُنكرها التاريخ. فما بقي من الأمم ليس قصورها ولا نقودها، بل كلماتها التي قالتها بصدق. وما مات الشعراء والكتّاب إلا جسدًا، أما كلماتهم فظلّت تمشي بيننا كأنها أرواح لا تعرف الفناء. فالكلمة الصادقة لا تنطفئ، لأنها تستمد وقودها من النفس الإنسانية ذاتها، والنفس باقيةٌ ما بقي الإنسان.
لكن، هل تكفي الصدق وحده لتُخلّد الكلمة؟ ربما لا. فالصدق بلا فنٍّ يُصبح تقريرًا، والفنّ بلا صدقٍ يصبح خديعة. ومن هنا تنشأ عظمة الكاتب الحق، إذ يصهر صدقه في بوتقة الجمال، ويحوّل التجربة إلى شكلٍ يليق بها. فالفكر الجميل الذي لا يُجيد التعبير عن نفسه يُظلم، كما أن البيان المفرغ من الفكرة يُضلّل. إن الإبداع هو اجتماع النورين: نور الفكرة ونور الأسلوب، فإذا اجتمعا، صار الحرف كوكبًا لا يخبو بريقه.
ولعلّ أجمل ما في الكتابة أنها تُتيح للكاتب أن يُولد كل يومٍ من جديد. فكل نصٍّ هو محاولة إنقاذٍ من النسيان، وكل سطرٍ هو مقاومةٌ للموت. والكاتب الذي لا يكتب، يموت مرتين: مرةً بصمته، ومرةً حين يرى المعنى يُهان أمامه ولا ينتصر له. فليست الكتابة ترفًا، بل مسؤوليةُ من يرى أبعد من الآخرين، ويسمع ما لا يسمعونه. إنها نداءٌ داخليٌّ لا يُجاب إلا بالحبر.
إن القارئ، في هذه المعادلة، ليس متفرجًا بل شريكًا في الخلق. فالنصّ لا يكتمل إلا بعينٍ تفكّ رموزه، وروحٍ تتفاعل مع وجدانه. وكما يحتاج الكاتب إلى قارئٍ صادقٍ، يحتاج القارئ إلى كاتبٍ أمين. ومن التقاء صدقهما تولد المعجزة الصغيرة: أن تتحوّل الكلمات إلى حياةٍ أخرى داخل الإنسان. فالقلم لا يكتب على الورق وحده، بل على الوعي أيضًا.
وفي زمنٍ امتلأ بالضجيج، وصارت الكلمات تُستهلك كما تُستهلك السلع، يحتاج العالم إلى أقلامٍ تعيد للّغة هيبتها، وللكلمة صدقها، وللإنسان إنسانيته. فالكاتب الذي يكتب بذهب اللفظ ولا يحمل نار الإيمان، كمن ينحت تمثالًا جميلاً بلا روح، والكاتب الذي يكتب بلهيب الغضب دون بصيرة، كمن يشعل نارًا في مهبّ الريح. أما الكاتب الذي يكتب بحبّ الإنسان ونور الفهم، فهو وحده من يجعل من القلم جسرًا بين الأرض والسماء، بين القلب والعقل، بين الفرد والإنسانية كلها.
إن القلم لا يطلب مجدًا، بل معنى. والكاتب، مهما كتب، يبقى تلميذًا في مدرسة الكلمة، يخطئ ويصيب، لكنه لا يتوقف عن البحث عن تلك الصيغة الخالدة التي تجمع بين النور والحرارة، بين الذهب واللهب. والكلمة التي تولد من هذا المزيج، لا تذوب في الزمن، لأنها مكتوبةٌ بدم التجربة، لا بحبر التكرار.
في النهاية، يبقى الكاتب ـ كل كاتب ـ شاهدًا على زمنه، وجسرًا بين الأجيال. وما يتركه في قلوب الناس أعمق من كل ما يقال عنه. فربّ كلمةٍ صادقةٍ تفتح في القلب نافذةً على الأبد، وربّ سطرٍ واحدٍ يُنقذ أمةً من غفلتها. إن القلم حين يُمسك به الصادقون، يصبح لسانًا للضمير، وصوتًا للحق، ونبضًا للحياة.
ولذلك كانت الكتابة، وستظل، أسمى أشكال الخلود الإنساني، لأن الكلمة الصادقة لا تموت، بل تمشي بيننا كضوءٍ لا يُطفأ.
في البدأ كانت الكلمة..
والكلمة الطيّبة صدقة.
ولم تأتِ الكلمة إلاّ لتحرك ضمير العالم.
سلمت يمناك اديبنا القدير.
إعجابإعجاب