قراءة في رواية «محطات» لقدرية سعيد

قراءة في رواية «محطات» لقدرية سعيد

د. عوض الغباري

للدكتورة قدرية سعيد شخصيتها العلمية والأدبية والإنسانية المتميزة. فهى حاصلة على درجة الدكتوراه فى الكيمياء، ولها روايات وقصص فى المقاومة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزى مثل رواية بلد الدم والعسل. ولها إسهاماتها الإبداعية فى أدب الطفل، واهتمامها بالخيال العلمى متمثلاً فى رواية “عاد ولكن”.

وللدكتورة قدرية سعيد حضور ثقافى واضح فى المنتديات والمؤتمرات العديدة متميزة بشخصية صادقة جادة ساعية إلى تطوير إنجازاتها الأدبية والفكرية بضمير حى إنسانيا ووطنيا. وموضوع رواية “محطات” سرد لحياة شاب لم يكمل تعليمه، ولكنها جعلته مادة روائية ثرية تدور حوله أحداث الرواية وشخصياتها.

ومثل هذا الشاب كثير فى المجتمع المصرى، ولكن القدرات الروائية للمبدعة قدرية سعيد تعمقت أبعاده النفسية والاجتماعية فى جزأين اتسما بسلاسة السرد، وتنوع الأحداث والأشخاص، والتداخل البارع بين الزمان والمكان، والخيال الجموح الذى حوَّل قضايا الحياة |إلى دروب جذابة من الحكايات المشوقة للقارئ من البداية إلى النهاية. نشأ هذا الشاب، بطل الرواية واسمه “عاطف” فى بيئة شعبية يمتلك والده ورشه صناعة للموبيليا، ويتمنى هو وأمه أن يكون ابنهما طبيبا أو مهندسا.

لكن الشاب يخيب ذلك الأمل، ولا يستطيع اجتياز المرحلة الثانوية لانصرافه عن التركيز فى الدراسة، واللهاث وراء حبه للحسان من الفتيات والسيدات، وكتمان أسرار مراهقته والتعبير عنها برسم الشخصيات التى أحبها فى لوحات جميلة.

وقد تعددت قصص الحب وعبر عنوان الرواية عن محطاتها مُتزامنة مع حياة هذا الشاب اللاهى الذى صوره الجزء الأول من الرواية، وسعيه إلى استعادة توازنه فى الجزء الثانى وتحقيق أمل والديه فيه بعد موتهما بالعمل الجاد فى ورشة أبيه والحفاظ عليها وتطويرها واستخدام أدواته الفنية فى الرسم، وكأن الرواية تجعل الفن وسيلة وغاية لتهذيب النفس وإكمال ما نقص فيها من علم. خاصة أن المجتمع المصرى يعتد بالشهادة الجامعية فى نيل المكانة الاجتماعية، وكانت هذه هى عقدة بطل الرواية.

تدور أحداث الرواية فى أفق آسر ساحر. وأهم تقنياتها الفنية “المصادفة”، إذ تفاجئ القارئ بما لا يتوقع فتكتسب عمقا وأثراً فعالاً فى بناء الرواية، خاصة أن المبدعة قد أتقنتها، ولم تفتعل وجودها سطحياً، بل كانت توظف المصادفة لفلسفة رؤاها الفكرية، وإثراء قدراتها الفنية.

ومن المصادفات الروائية الشامة فى خد بطل الرواية، وكان يريد إزالتها، بينما كانت هذه علامة على إعجاب فتياته به.

ومنها أنَّ معلمته للغة الفرنسية ومحبوبته التى رسم لوحة لها دون أن تعرف كانت زاوية مهمة فى الرواية عندما التقى بها بعد قصة حب لابنتها التى اختارها دون حبيباته الكثيرات، فتزوجها، وكانت المصادفة –أيضا- أن اللوحة التى لم تعرف معلمته الفرنسية شخصية راسمها كانت عند ابنتها.

ومن المصادفات المؤثرة فى بناء الرواية شخصية زوج عمة البطل، وكان خائنا لها، كما كان تاجرا للآثار وللمخدرات فالتفى به بطل القصة صدفة وفق بناء روائى شيق، وحبكة جذابة، وقد أنقذ عمته من استدراج هذا الخائن لها وللوطن عندما حاول أن يعود إليها بعد الطلاق.

ومن المصادفات أن التى قادته إلى المعلومات عن هذا الخائن هى حبيبة أخرى التقاها أثناء رحلة عمل فى الأقصر وأسوان.

ومن المصادفات لقاء بطل القصة مع صديقه أمام بيت إحدى محبوباته، وعرف منه أنها تتلاعب بالرجال لجمالها وثروتها فانصرف عن حبها وقد أوشك على الارتباط معها فى شراكة تجارية.

ومصادفة أخرى جعلت بطل القصة يفلت من الوقوع فى جريمة توزيع المخدرات بإيعاز من صديق سوء غَرَّه بالمكسب الكثير السريع، إذ قرأ خبرا، وهو في الطريق إلى ارتكاب الجريمة، عن القبض على عصابة تهريب مخدرات في نفس المنطقة التى كان ذاهبا إليها، فتخلص من المخدرات التى كانت معه، وهرب من تنفيذ المهمة السامة.

ومن مصادفات الرواية، أيضا، أن حبيبة لبطل الرواية، وقد رسم لها لوحة، وكان هذا دأبه من حيث التعبير عن الحب الذى يكتمه في نفسه، قد صارت زوجة لأبيه بعد موت أمه، ثم كانت مصادفة أخرى بحضور حبيبة سابقة لحفل زواج بطل القصة اتضح أنها كانت جارة لعروسه.

لقد هيأت هذه المصادفات جوا روائيا مفعما بالأحداث المتنامية التى عبَّرت عن امتلاك الدكتورة قدرية سعيد لأدواتها الفنية.

وقد ازدانت الرواية بلوحات الفن التشكيلى، ولعبت ثقافة المبدعة دورا كبيرا في تحليلها والوقوف على جمالياتها، وأهمها أن روح الفنان التشكيلى التى تسرى في عمله هى التى تحقق جماليات هذا العمل، وليست البراعة البحتة في خطوط الرسم.

ولما كان الفن جسرا للتوازن والتعافى من عقدة نقص بطل القصة في التعليم، فقد كان الحب هو الجناح الآخر لتحقيق هذا التوازن النفسى.

فالرواية تعج بقصص الحب الرومانسى التى عبَّرت عن فيض مشاعر عاطفية عوَّضت بطلها عن كثير من التعاسة والحرمان الذى واجهه.

لقد اكتسب بطل الرواية ثقافة جعلته يحقق ما كان يصبو إليه من مكانة وقيمة حققها – كذلك- بالإصرار والجد في العمل، وتعلم اللغة الإنجليزية، ومتابعة ما يتعلق بسُبُل الترويج لصناعته وفنه.

حب الوالد والوالدة والعمة لبطل القصة كان دافعه إلى الخروج من الهاوية.

والولع بالجمال كان من تجليات سعيه إلى ما يصله إلى بر الحب الذى استقر عليه بعد قصص حب كثيرة.

وبداية الرواية ونهايتها كانت وقوفا من البطل على قبر الأب والأم اعتذارا عما سببه لهما من حزن، وإسعادا لها بما حققه من نجاحات طالما اشتاقا إليها.

وحب بطل الرواية لمعلم اللغة الإنجليزية سَهًّل له الصداقة والحب المتبادل بينهما، مما أدَّى إلى صقل ثقافته.

وحب بطل القصة لفريق العمل معه هو الذى أدَّى إلى نجاح هذا العمل.

وقد عكست مبدعة الرواية ثقافتها في تناولها لوسائل التسويق وإدارة الأعمال، وفى مجال وصفها لآثار مصر القديمة، وفى تحليل الوجوه الإنسانية لشخصيات الرواية. وقد تميزت المبدعة بتصويرها الدقيق لشخصيات الرواية وأماكن أحداثها.

كما برعت في سرد المونولوج عند استدعاء العمة لبطل الرواية في أمر لم تفصح عنه، واستغرق صفحات كثيرة دالة على التمكن من تقنية المونولوج، وظهر ذلك أيضا في مناجاة بطل الرواية لوالديه أمام قبرهما.

وكانت هذه المناجاة قطعا أدبية بليغة مؤثرة تعكس جمال أسلوب المبدعة رقة وعذوبة. وكذلك كان حوار مبدعة الرواية في مناجاة بطل الرواية لذاته بين جانبين هما الجانب الإنسانى، وجانب رجل الأعمال النفعى. والنماذج البشرية التى تناولتها الرواية تعبير حى عن النماذج التى نراها في حياتنا، ومفهومها للحب يفيض بشجون وألحان تؤكد وجها آخر وطنيا هو حب مصر وتاريخها العريق، والتحية لشهداء الإرهاب من جنودها، والإشادة بتاريخ الانتصارات المصرية العظيمة.

ومع قصص الحب في الرواية يأتى مفهوم الحب ليس له أسباب، عطاء مستمر من المشاعر دون انتظار المقابل “لا شروط في الحب” إنه تيار يسير كيانك إليه. إنه المفهوم الذى يلتقى بروح هذه الرواية منظومة من الفن متوجا بالحب، أو الحب متوجا بالفن مما تستحق به مبدعتها الدكتورة قدرية سعيد التقدير والاحترام وفاء لهذا العمل الإبداعى الهادف الراقى، النبيل الأصيل.


الكاتبة الدكتورة قدرية سعيد

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.