حين صارت اللغة جسدًا.. تحوّلات الحسّ في قصيدة النثر

حين صارت اللغة جسدًا.. تحوّلات الحسّ في قصيدة النثر

صالح مهدي محمد

اللوحة: الفنان السوري وليد الآغا

حين نتأمل قصيدة النثر الحديثة، ندرك أن اللغة فيها لم تعد مجرّد أداة شفافة تنقل المعنى، بل غدت جسدًا نابضًا بالحواسّ، يتنفس ويشتهي ويتحوّل. لم تعد الكلمات رموزًا عاقلة تشير إلى الخارج، بل صارت كائنات حيّة تُقيم وجودها داخل التجربة.

هذا التحوّل لم يكن شكليًا، بل انقلابيًا في طبيعة اللغة ذاتها. فالكلمة لم تعد تصف العطر، بل تفوح به، ولم تعد تشير إلى اللمس، بل تستحضره. لقد صارت اللغة جلدًا آخر للإنسان، يُصاب بما يُصيب صاحبه من رعشة أو دفء أو انفعال.

بهذه الرؤية، تُصبح اللغة مادة محسوسة تُرى وتُشمّ وتُسمع وتُلامس. فهي كائن له صوتٌ خفيّ ودفء خاص، لا ينقل الواقع بل يعيد تشكيله في جسده الخاص. ومن هنا، لم تعد قصيدة النثر مجرّد شكلٍ شعري جديد، بل وعيًا مغايرًا للعلاقة بين الإنسان والكلمة، حيث يتقدّم الحسّ على الذهن، ويصبح الإدراك تجربة وجودية لا فكرة ذهنية.

لقد ظلّ الشعر الموزون، عبر قرون طويلة، مشدودًا إلى المثال والرمز، وإلى عوالم عليا تفصل الروح عن الجسد. جاءت قصيدة النثر لتردّ الجسد إلى اللغة، وتستعيد اليوميّ والهامشيّ، وتعيد الاعتبار لما هو ملموس ومتقلّب، كأنها تُعيد الشعر إلى نبض الحياة. لم تعد اللغة تتزيّن بالفخامة أو بالوزن، بل غدت فضاءً تتقاطع فيه الحواسّ كضوءٍ ينعكس من زوايا مختلفة. المفردة لم تعد نغمة ذهنية، بل أثرًا حسيًا يترك بصمته على القارئ كما يترك العطر أثره في الهواء.

نلمس ذلك في أعمال أنسي الحاج وسركون بولص وأدونيس ووديع سعادة، حيث تتحول الكلمة إلى أثرٍ ماديّ، كأنها لمسة أو طيف دفء. فالقارئ هنا لا يمرّ على النص، بل يعيشه بجسده كلّه، كما لو أن اللغة تسري تحت جلده لا عبر عينيه. إنها قراءة تُشبه اختبار الحلم، لا فكّ شفرته.

في هذا النمط من الشعر، لا تكون الحواسّ وسيلة للزخرفة، بل أدوات للفهم والتكوين. فالشاعر لا “يصف” المشهد، بل “يدخله” ويقيم فيه. حين يقول:

“أفتح النافذة فيفوح وجهك”،

فهو لا يستخدم الصورة كزينة بل كحضور حقيقيّ، حيث يلتقي البصر بالرائحة، والذاكرة بالهواء. فالمعنى لا يأتي من التأمل، بل من تماسّ الإحساس بالكلمة، من التفاعل بين الصورة والنبض، بين اللغة والوجود.

لذلك، لا تُفهم قصيدة النثر بالتحليل الخارجي، بل من خلال توترها الداخلي، من حركتها التي تمزج الفكر بالعصب. فالشاعر لا يكتب بقلمه، بل بجسده كلّه. كل فاصلة شهقة، وكل سطر نبضة، وكل كلمة أثر على الصفحة البيضاء. الكتابة هنا ليست إنتاجًا عقليًا بل أداء حيّ، كرقصةٍ تُؤدى باللغة نفسها.

الجسد في قصيدة النثر ليس موضوعًا، بل وسيلة للخلق. اللغة تتحرك كما تتحرك اليد على صفحة الماء أو كما يعزف العازف على أوتاره. في هذا الانصهار بين الجسد والكلمة، تستعيد القصيدة طاقتها الأولى، حين كانت الشعرية فعلًا حيًّا لا هندسة لغوية. ومن هنا يتقاطع هذا الفن مع الموسيقى والرسم والرقص، إذ يجمعها جميعًا انتماؤها إلى الحضور، لا إلى الفكرة.

هذا التحوّل الحسّي في جوهر الشعر يبدّل نظرة الإنسان إلى العالم. فحين تتغيّر طريقة الإحساس، يتبدّل معنى الوجود. قصيدة النثر ليست محاكاة للحياة بل إعادة لاكتشافها، إذ تجعل من التجربة مصدرًا للمعرفة، ومن الجسد أفقًا للفكر. إنها فلسفة تُعيد مركز المعنى إلى التجربة نفسها، لا إلى التأويل البعيد. هنا تصبح اللغة كائنًا حيًّا، يتنفس داخل النصّ ويوقظ القارئ على دهشةٍ نسيها.

الإيقاع في هذا الفن لا يصدر عن وزنٍ خارجي، بل عن الحركة الداخلية للحسّ. فالجمل تتوالى كما تتوالى الأنفاس، والموسيقى تولد من التقطيعات، من الصمت بين الجمل، من توتر النغمة في المعنى. هذه الموسيقى لا تُسمع بالأذن، بل تُحَسّ، كرجفةٍ تمرّ عبر الجسد. الإيقاع هنا ليس نظامًا، بل حياة، ينبثق من طريقة اللغة في التنفس، من توترها بين الانفعال والسكون.

ومع هذا التبدّل، لا تُقصى الفكرة، بل تُستعاد في شكلها الأعمق. فالفكر لا يغيب حين تحضر الحواسّ، بل يتحوّل إلى تجربة. العقل لا يُلغى، بل يتحرر من سلطته المنفصلة، ويعود إلى منبعه الحيّ في الحسّ. المعرفة لا تُبنى على المفاهيم، بل على المشاركة، على الانغماس في التجربة اللغوية كما تُعاش. فحين تقترب اللغة من غريزتها الأولى، لا تنحدر، بل تستعيد صفاءها، ككلمة آدم الأولى حين سمّى الأشياء لا بوصفها، بل باعتناقها في الوجود.

قصيدة النثر إذن ليست نفيًا لما سبقها، بل امتدادًا تطوّريًا له، انتقال من الصياغة إلى التجربة، من التمثيل إلى الحضور. إنها تفتح اللغة على لحمها، وتجعل الكتابة فعلًا وجوديًا، لا صناعة لغوية. إنها الفنّ الذي يجعل الحواسّ تنطق بلغة الضوء، وتحوّل الغموض إلى نغمة، والصوت إلى لمس، واللمس إلى وعيٍ جديد.

وحين تصير اللغة جسدًا، يصبح الشعر نفسه شكلاً من أشكال الكينونة. فالشاعر لا يصف العالم، بل يسكنه لغويًا، كما يسكن الحلم من يراه. قصيدة النثر بهذا المعنى ليست نصًّا يقرأ، بل حالة تُختَبَر. إنها إعادة للتوازن بين الرؤيا والإحساس، بين الفكرة والنبض، بين الصوت والمعنى.

وحين تنطق اللغة بكامل جسدها، يغدو الوجود ذاته قصيدة لا تُقرأ بالحبر، بل بالدهشة والانفعال. قصيدة تتوالد من حركة الحواسّ، وتعيد إلى الكلمة روحها الأولى، تلك التي لم تعرف الانفصال بين الحياة واللغة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.