مسافرون

مسافرون

اللوحة: الفنان السوري حمود شنتوت

  • «ذكريات العيد الأولى»

في مطلع حياتي الزوجية، كانت أجمل أيام السنة عند العائلة، يومين فقط: صباح أول الفطر وصباح الأضحى.

عقب الصلاة، تتدفّق الأسر كأنها نهرٌ نحو الدار الكبيرة، يترقّب الصغار امتلاء جيوبهم بالعيدية السخية، وتغمر الطمأنينة جوّ البيت، مع فرح القلب وضحكات الأطفال التي تتحوّل إلى موسيقى العيد.

ولا بدّ في النهاية من صورةٍ جماعية تُخلّد اللحظة قبل أن تمضي.

اليوم تغيّرت أشياء كثيرة في اللوحة، عدا ما في القلوب من مشاعر طيّبة.

تركَت السنون أثرها المعروف في وجوهنا وأجسادنا، وأصبح النداء «يا جدو» يتردّد بيننا، فيجلس الأجداد والجدّات بمشاعر من خاض رحلة طويلة بحلوها ومرّها، ووصل إلى مرحلة الراحة؛ حين تُغلق نوافذ البيت عن الخارج، ويعمّ الهدوء، فلا يصل من صخب الحياة سوى أصواتٍ ضعيفةٍ متقطّعة، كأنّ الباب قد أُغلق على ما تبقّى من العمر في سلام.

أجلس بجوارهم وأنظر إليهم بعين الحاضر والماضي في آنٍ واحد، فلا أرى سوى أقراني: رفاق الطريق وأبطال القصة.

حين تلتقي العيون، أشعر أنني أنظر إلى من يلوّح لي بإشارة الوداع؛ فالمهمة قاربت على الانتهاء، ويا ويلَ من يتأخر في الرحيل، إذ يبتلع أحزانًا وأشواقًا تزيد الجسد ألمًا.

***

  • «اللوحة التي تغيرت»

لكن اليوم اختفى من اللوحة كثير من جواهرها. كنا في شبابنا مرحين وثرثارين وفضوليين، لا نتوقّف عن التحفيل والاستظراف والنقاش الساخن في كل المواضيع.كان الحفل بالألوان الطبيعية القوية، بينما اليوم اللوحة مختلفة وتائهة.

جاء أحد أبنائنا — طفل الأمس — من السفر وحضر الحفل. وبعدها سألتُ ابنتي:

«ماذا حدث؟ لقد جلس كل فردٍ من أبناء العائلة ساكنًا، وعلى حجره أحد أطفاله، وبدا على الجميع الإرهاق والشرود. لم يخرج من فم أيّ أحدٍ سوى كلماتٍ قليلةٍ بطيئةٍ من وراء الوعي، بعض كلماتٍ مجهدة، وبلا فضول، وكأنهم كانوا معًا بالأمس!»

فقالت لي ابنتي بتلقائية: «يا أبي، كلهم مسافرون.»

هناك كلمات تخرج عفويةً فتبلغ الكمال. فمهما استدعيتُ من خزانة ثقافتي للتعبير، لن أجد أعمق ولا أصدق من هذه الكلمة لوصف الواقع.

كلهم مسافرون! وما زالوا مسافرين. ولا ندري إلى متى السفر.

أكثرهم مسافرون في المكان نفسه… مشتّتون… جسدٌ هنا، وخاطرٌ هناك، وأحلامٌ أبعد… وهمومٌ أسفل الجلد.

***

  • «الفارق بين الماضي والحاضر»

في الماضي، كان الرجال يعودون من أعمالهم كما يعود المسافر إلى بيته بعد يومٍ طويل؛ يخلعون همومهم على العتبة، ويدخلون بيوتهم بوجوهٍ جديدة، لا يحملون من العمل سوى رزق اليوم ورضاه.

كانت الحياةُ موزّعةً بإنصاف: لكل دنيا وقتها وحدودها؛ فالعمل دنيا، والبيت دنيا، والخارج دنيا ثالثة، لا يتسرّب ضبابُ واحدةٍ إلى الأخرى.

وفي المساء، كانت الجلسة في المقهى أو النادي أو بيت القريب امتدادًا طبيعيًا للحياة، لا عبئًا عليها؛ يتبادلون فيها الكلام والضحك ويستعدّون لصباحٍ جديدٍ دون توترٍ أو خوفٍ من الغد.

أمّا اليوم، فهؤلاء الشباب — الآباء والأمهات — جاؤوا إلى لقاء العيد يحملون عوالمهم على ظهورهم؛ لم يخلعوا دنياهم عند الباب، إذ اختلطت كلها ببعضها حتى فقدت الأسماء معناها.

ذابت الحدود بين العمل والبيت والخارج، فصارت الأيام كتلةً واحدةً متواصلة لا فواصل فيها ولا راحة. لقد هبطت الطفرة التكنولوجية عليهم كفيضٍ مباغتٍ من النور، أربك البصيرة قبل أن ينير الطريق.

جلسوا متجاورين في اللقاء بأجسادٍ مرهقةٍ وعيونٍ زائغة، كأنهم يشاركون بظلالهم لا بأنفسهم. يحملون ما لا طاقةَ لهم به، ولا يعرفون فنونَ سياسته.

تحولت رحلةُ الحياة إلى عقوبةٍ يوميةٍ للحياة نفسها، فبهتت النظرةُ، وتبدّلت المشاعر، وأصبح العيد استراحةً قصيرةً من سباقٍ لا يعرف أحدٌ نهايته.

***

  • «شائبة النعمة والطفرة»

لا توجد نعمةٌ مجانية أو منفردة؛ لا بدّ أن يكون في نسيجها «الشائبة الكامنة في النعمة» التي تُنغّص عليها وتهدّدها بالزوال، وتنطق بأن الكمال لله وحده.

هؤلاء الشباب يعيشون في زمن الطفرة في كل شيء، زمنٍ أشبه بالخيال، بل هو الخيالُ بعينه: الاتصالات، المواصلات، العلوم، الفنون، الدواء، الفكر… تلك بعض النعم، وهي نعمٌ أسطورية، فيها من بعض بُشريات الجنة.

ولكنهم أُقحموا في مباراةٍ حاميةٍ بلا تدريبٍ ولا قراءة، كما يقول المثل: «من الدار للنار».

ولو جلبتُ لك صندوقًا ممتلئًا بالجواهر، وبدلًا من أن أضعه في يدك قذفتُه في وجهك، فكيف يكون الحال؟ ربما تنحرف بوجهك في اللحظة الأخيرة فيطيش الصندوق على الأرض، فتلتقطه بهدوءٍ وتنتفع به وأنت سالم. وربما يخطئك الحذر قليلًا، فيصيبك الصندوق ببعض الجروح، يُتلف لك عضوًا، وتبقى النعم غزيرة، لكنها تذكّرك بأن فيضها جاء بثمنٍ فادح. وربما — وهي القسوة الكبرى — يصدم الصندوق وجهك مباشرة، فيسقطك صامتًا، وتبقى الجواهر بجوار جسدك الساكن، تلمع في العدم كأنها تسخر من ضحيتها.

هذا بالضبط ما فعلته القفزة التكنولوجية والحضارية الحالية؛ قُذفت في وجه الشباب، فكان أندرهم من خرج سليمًا، وأكثرهم يحمل أثر الارتطام في ملامحه، وبعضهم مضى ضحية البراءة، لم يخطئ سوى أنه وُجد في زمنٍ فاق وعيه وطاقته.

***

  • «الخطر الحضاري العربي»

كوكب يقوده مجانين القوة والعظمة، يستبدلون سيوف الأمس بالقنابل الذرّية وأسلحة الدمار الشامل.

نُزع من هذا الجيل نعمةٌ كانت مجانية ومضمونة منذ أول الخلق وحتى الأمس القريب.

كان أسلافنا ينظرون إلى ذريّتهم بأملٍ يصل إلى درجة اليقين؛ فإن كان مزارعًا، أيقن أن ذريّته ستحيا للغد في أمان، وسيتعاقبون كما يريد الله، فكان يرى في خياله أحفادًا وأجيالًا تنبت تباعًا، حتى يُصبح الجدّ المائة.

أما اليوم، خاصةً نحن العرب، فلا نجرؤ على أن يخترق خيالنا الغد القريب، فنُخيل — دون كدر — أن أبناءنا سيعيشون يومهم آمنين، أو أن لهم غدًا. لم يعد الخوف ترفًا يخص الضعفاء وحدهم، فالسفينة حين تغرق لا تميّز أحدًا عن أحد، وسفينة الغد العربي تواجه خطر الغرق. الغد مجهول، ويخالطه الشكّ، ولا وقت للتنظير.

***

  • «ميزة قرب الرحيل»

هناك ميزةٌ ثمينة في قرب الرحيل، وهي شعورك أن الغد المرعب سيكون بدونك، فتعفى من معاناته وآلامه.

مشاعر الأب حين يرى أبناءه يمرّون بكل أطوار حياته فينظر إليها ببرود؛ فالفيلم الذي سيعيشه الابن قد شاهده الجدّ من قبل، ولا جديد تحت الشمس. لكن حرارة الغد ولهيبه تملأ صدورنا بمشاعر النجاة، فكلّ شيء لم يعد كالأمس؛ التعليم بالأمس كان كالتنفس البارد. أما اليوم، فقد أصبح سباق حواجز وأسعارًا سياحية، ومسرح عجائب يُنصب بالنهار ويُهدم بالليل. ويدفع الطلاب ثمن البناء والهدم، فلا تبقى لديهم ذكرى لفائدةٍ أو حصيلة.

وأرتعب حين أتصوّر أبنائي اليوم وهم يتورّطون في تعليم أبنائهم. التعليم رحلةُ رعبٍ، وكذلك المهنة، والزواج، والعلاقات، والأكل، والشرب، ولا يتبقى سوى التنفس.ولهذا يبدو الرحيل المبكر كنعمةٍ خفيّة؛ كمن يلمح النار قادمةً فيغلبها غيابُه قبل أن تبلغه.

***

  • «صرخة الشباب والمجتمع»

في مسرحية «على الرصيف» نادى حسن عابدين وسهير البابلي: «مين سرق مصر؟»

وهذا صراخٌ قديم تجاوزناه وتجاوزنا، وأصبحت الصرخة الجديدة: «مين سرق دسم الحياة والحلم من شبابنا؟»

شبابنا سُرق يومه وغده… فمن المجرم؟ هل هو الذي نشل العمر أم الذي نام حتى دخل السارق وسلب الجميع؟

ولو فُرضت عليّ الإجابة لقلت: «نحن الذين أجرمنا في حقّ أبنائنا، ربّينا اللصَّ بيننا، ولقّنّاه وسمنّاه حتى صار ذئبًا، ثم سألنا بدهشة: من أين جاء هذا الذئب؟»

كيف يتقدّم شعبٌ والقراءة غائبةٌ عن وجدانه؟ فالسفن التي عبرت إلى المستقبل كان شراعها الكتاب، بينما نحن ما زلنا على الشاطئ لا نعرف اتجاه الريح…

***

  • «خاتمة رمزية»

هكذا صار جيل اليوم يملك أكثر مما حلم به آباؤه، لكنه يعيش أقلّ مما عاشوا. بين يديه جواهر لا تُحصى، وفي قلبه شجنٌ لا يُرى.

وكل عيدٍ يجتمعون فيه، يبدو كاستراحةٍ قصيرةٍ من رحلةٍ طويلةٍ بلا مظلات، تتقاذفها الريح، وتراقبها السماء بصمت.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.