نصوص للكاتب الهولندي رمكو كومبارت

نصوص للكاتب الهولندي رمكو كومبارت

اللوحة: الفنان البرازيلي ماركوس جينوزا

ترجمة مهدي النفري

مقطع من رواية القلب الساتاني 

الاستيقاظُ عذابٌ يتجددُ في كلِّ صباح. النومُ خَدَرٌ عابرٌ لا يُداوي علةً. لن أَستفيقَ مُستريحاً بعد الآن أَبداً. أبتدئُ يومي بإحساسٍ بالاهتراء والمَهانة.

حين تُجبِرُني مَثانتي على مُفارقةِ الفراشِ وأقفُ مُقابِلَ المِرحاض، أُدركُ أنَّني لم أَمتْ في مَنامي بعدُ، مع أنَّ ذلكَ لَهُوَ الحلُّ الأَمثَل.

أُقِرُّ بأنَّني لا أُصدِّقُ هذا القولَ كلَّهُ. فالخشيةُ من الغيابِ عن لحظةِ الموتِ ذاتِها أَشدُّ وَطْأَة. أَستشعِرُ رَاحةً طفيفةً ما أن أَتمكَّنَ من الوقوفِ، وإن بتَرنُّح – لقد تجاوزتُ هذا اليومَ كذلك. الحياةُ، التي لم تَعُدْ مُعجِزة، باتتْ عادةً تَعَلَّقْتُ بها ظاهرياً، قُوّةً صَمّاءَ لا أَقوى أو لا أرغبُ في مُدافعتها.

ذاكره

الذاكرةُ عشيقةٌ لا ترحم، لا تدعك تستريح أبداً. إنها ترقدُ معك في السرير حتى مع المرأة أو الرجل الذي تُحبُّه وهما لا يعلمان شيئاً عن ذلك.

إنها ترقصُ معك على الطاولة وتهمسُ لك بأسرارٍ لا ينبغي لأحدٍ سماعها، وعندئذٍ تضحك، ويظنُّ الجميعُ أنك تستمتعُ بوقتك. لكنك أنتَ تعلمُ الحقيقةَ أكثر. أنتَ وحيدٌ ومعها في الوقت ذاته. وكم هي جميلةٌ تلك الذاكرة لدرجة أنك لا تستطيعُ أن تُبعدها. تتمنى لو أنها هي من تُبعدُك، وذلك لا يحدث أبداً.

هراء

الزمنُ حيوانٌ صبور. ينتظرُ حتى تُنهك ثم يَمضي بك في ركضه. الكتابةُ هي محاولةٌ لاصطيادِ الزمن لتثبيتهِ على الورق ولو للحظةٍ عابرة. لكنَّ الحبرَ يكونُ قد جفَّ بالفعل قبل أن يَحلَّ الإدراكُ بأنَّ الكلماتِ قد أضحتْ جزءاً من التاريخ.

كلُّ فصلٍ مُكتملٍ هو وداع. وفي اليوم التالي تبدأ من جديد، وكأنَّ الزمنَ قد منحكَ فُرصةً جديدةً لتتفوقَ عليه دهاءً، وهو محضُ هُراء بالطبع.

لحظة

تظنُّ أنك تعرفُ الناس لكنك لا تعرفُ سوى النسخة التي يريدون أن يُظهروها لك. ثم تأتي لحظة الصمت تلك، اللحظة الحتميّةُ حين يرحلُ الجميعُ وتبقى وحيداً. هذه هي اللحظة التي تبرزُ فيها نسختُكَ الخاصةُ من ذاتك، تلك التي تخفيها بعناية عن باقي العالم.

وأحياناً في لحظةٍ كهذه تتمنى لو كان بإمكانك الاتصالُ بتلك النسخة المخبأة لشخصٍ آخر، لترى ما إذا كان بإمكانكما الاتفاقُ أخيراً، هناك على الأقل في تلك الوحدةِ العميقة.

التفاني

الإخلاصُ شأنٌ عجيب هو فنُّ التكرار دون ضجر. لكنَّ المَلَلَ لِصٌّ مُتسلّلٌ يَنخُرُ في التكرارِ بِبطء. ليست المشكلةُ في التكرارِ ذاته، بل في التوقُّعِ بأنَّ التكرارَ سيأتي بجديد. هذا هو الخيانة.

الصحيفةُ الصباحيةُ تكونُ مُخلصةً حقاً حين تملأُ الفراغَ ذاته كلَّ يوم. ونحنُ نكونُ مُخلصينَ حقاً حين نَحتملُ ذلكَ الفراغَ سويةً.

تذكرة يومية 

أقرأُ الجريدةَ بالدرجةِ الأولى لأرى ما لم يَحدُث. القصصُ الحقيقيةُ هي الأشياءُ التي نُفضِّلُ كتمانها. هناكَ يكمنُ الدراما.

يصمتُ المرءُ لأنه خائفٌ أو لأنَّ لديه سِراً، أو لأنه ببساطةٍ لا يستطيعُ العثورَ على الكلماتِ المناسبة. والجريدةُ هي نُصبٌ تذكاريٌّ لجميع تلك المرات التي لم تُعثر فيها الكلماتُ الصائبة، تذكرةٌ يوميةٌ على عدمِ اكتمالِ الكيان.

مشهد

استقلالُ سيارةِ الأجرةِ (التاكسي) هو دائماً فعلُ يأس. أنتَ تُسلِّمُ نفسكَ لغريبٍ على أمل أن يكونَ عارفاً بالطريق، سواء كان طريق الوصول إلى وِجهتك أم طريق الخروج من رأسكَ أنتَ.

وعندما تصلُ، تُدركُ أنَّ السائقَ لم يكن يعرفُ سوى الشوارع، وأنتَ لا تزالُ محبوساً في ذلكَ المشهدِ القديمِ والمألوفِ وغيرِ المفهومِ لأفكاركَ.


رمكو كومبارت (Remco Camper – 1929-2022) أديب هولندي غادر عالمنا بعد مسيرة حافلة. اتخذ قرارًا بالتوقف عن الكتابة في عام 2018، وهو القرار الذي اعتُبر صعبًا بالنظر إلى أن الكتابة كانت تمثل له الحياة والتنفس. من بين أعماله المتأخرة، رواية “القلب الساتاني” (2006)، التي تتناول قصة فنان ساخر يحدق في وجه الموت. إضافة الى تلك الرواية لديه العشرات من الإصدارات توزعت بين الشعر والرواية وغيرها.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.