الإجابات الصغيرة

الإجابات الصغيرة

اللوحة: الفنان الإيرلندي رانسيس بيكون

غدًا امتحان الثانوية العامة، يا إلهي! لم أفتح الكتاب قط.

لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب، سأذاكر اليوم كله وحتى طلوع الفجر.

جلست على مكتبي، وضوء المصباح الخافت يلقي بظلاله على الأوراق المتناثرة، والساعة تدق بلا رحمة.

بضع أكواب من القهوة تكفي لتبقيني مستيقظًا، لكن قلبي يرفرف من التوتر، وعيناي زائغتان، والعرق يتصبب من جبهتي رغم برودة الليل.

رآني أبي وأنا أحمل فنجاني، مرّر أصابعه على ذقنه وقال ساخرًا:

– «هذه ذقني لو فلحت.»

أحنيت رأسي، وانسحبت إلى غرفتي، كأن الكلمات صفعةٌ خفية على وجه قلقي.

أمسكت بالكتاب، لكن الأفكار راحت تتسلل إليّ: مكالمة مهمة، نظرة من النافذة، استراحة قصيرة، طلب طعام من أمي… وهكذا مرّ الوقت.

لم أنم، ولم أذاكر، وقلبي يئنّ تحت وطأة الوقت الضائع.

شعرت بانقباض في صدري، وضيق يتزايد مع كل دقيقة.

دخلت الامتحان وأمسكت الورقة، لكن الوقت يمضي، والورقة لا تزال بيضاء.

فجأة وجدت نفسي خارج القاعة: أتناول شرابًا، أضحك مع زملاء، أشاهد فيلمًا في السينما، ثم أتابع مباراة لفريقي المفضل.

تساءلت بدهشة:

– كيف سمح لي المراقبون بالخروج؟ ولماذا لم أكتب شيئًا؟

الاختناق يعود، جسدي يرتجف، وقلبي كأنما مكبّل، وآلام الموت تحيط بي.

سمعت صوتًا يناديني:

– «جدي! ألم تستيقظ بعد؟»

فتحت عيني لأرى حفيدي واقفًا أمامي.

يا إلهي! كان كابوسًا جديدًا من تلك الكوابيس القديمة.

ها أنا، وقد تجاوزت الستين، وما زال ذاك الحلم يطاردني من حين لآخر. صار يتكرر كثيرًا مؤخرًا، حتى بات النوم عبئًا، يخفي في طياته همًّا مقيمًا.

قال لي الطبيب النفسي بعد جلسات طويلة ومكلفة:

– «أنت مصاب بـ”إحساس الفوت”. تشعر بأن حياتك مضت في الإجابات الصغيرة.»

شرح كثيرًا، ولم أقتنع، لكن كلماته نبّهتني إلى أنني، منذ تقاعدي، أصبحت معزولًا.

انتهى عملي، وتحررت من المسؤوليات بعد أن تزوج أبنائي وبناتي، وصرت أراقب الحياة تمرّ من نافذتي بلا مشاركة.

اتبعت ما يفعله الآخرون: أراقب الوقت وهو يمر، أعدّ الأيام، وأتساءل عن جدوى ما تبقى.

شعرت بما يشعر به كثير من الآباء حين يصلون إلى هذه المرحلة، بينما الأمهات لا يتقاعدن، يظلن مركز حياة الأولاد.

تملكني سؤال مرير:

– ماذا أفعل الآن؟

بدا لي وكأن كتاب حياتي قد أُغلق مبكرًا، وما تبقى هو مجرد انتظار للصفحات الباقية من هذا الكتاب.. مثل هذا الانتظار لا يجلب سوى الوحدة والبطالة والخذلان.

سمعت نصائح لا تُعد، لكن نصيحة واحدة فقط ظلت عالقة في ذهني؛ قالها رجل غريب كان يجلس بجواري في مقهى، بعدما سمع حديثي مع صديقي:

– «ستجد ما فقدته من مشاعر إذا نجحت في إنباتها في الآخرين.

إن كنت سببًا في سعادة أحد، ستكون سعيدًا. وإن آنستَ أحدًا، لن تشعر بالوحدة. وإن ساعدتَ أحدًا على الإنجاز، فستشعر بالإنجاز. فما تفتقده في نفسك، ازرعه في غيرك… سيعود إليك مضاعفًا، شافيًا، ومرويًا لظمئك.»

جلست أستمع إلى ضجيج المقهى: صوت فناجين القهوة، همس الزوار، وروائح البن الطازج، وبدأت كلمات الرجل تتغلغل في أعماقي.

بعد أيام، وأنا أمرّ في أحد شوارع المدينة، رأيت ابن أحد الجيران يعمل في متجر، يبيع بضاعة بسيطة. بدا ذكيًّا، مشعًا بحيوية رغم التعب. تحدثت معه، وعلمت أنه يعمل عشر ساعات يوميًا مقابل أجر زهيد.

قلت له مبتسمًا:

– «لقد ضعف بصري، هل يمكنك أن تأتي يوميًا لتقرأ لي ثلاث ساعات؟ سأعطيك الأجر نفسه.»

ولم أكن ضعيف البصر، لكن الفكرة راقت لي فجأة، وأحسست أن هذه التجربة قد تفتح نافذة جديدة في حياتي.

فرح الفتى، وبدأ يزورني كل يوم. يقرأ لي ما أختاره من قصص وكتب تناسب عمره، وأنا أحرص على أن أجذب خياله وأستفزه بأسئلتي. كنا نناقش ما نقرأ، وشيئًا فشيئًا بدأ ذهنه يتفتح، وعيه يزدهر، وخياله يركض في آفاق جديدة.

كان يعود إليّ كل يوم محمّلًا بأسئلة وتصورات، وعيناه تبرقان بفضول جديد. كأن بابًا في ذهنه قد انفتح، وكأن صداقة نشأت بينه وبين الكلمة… وبيننا.

لم يكن المبلغ الذي أدفعه له كبيرًا، لكنه كان أقل كثيرًا مما أدفعه للطبيب. مع الوقت، شعرت أنني وجدت طريق الشفاء الحقيقي.. تضاعف عدد أصدقائي، وتضاعف عدد أصدقاء الكتاب. ولأول مرة منذ زمن طويل، شعرت أنني لا أعيش على هامش الحياة، بل أكتب فيها الإجابات الكبيرة، وأزرع في الآخرين ما أفتقده في نفسي. وأدركت أن الحياة الحقيقية تبدأ حين نشاركها، حين نصنع السعادة لأحد، حين نغرس الأمل في قلب آخر.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.