الحرز – (2)

الحرز – (2)

اللوحة: الفنانة الألمانية كلارا سيويرت

سعاد الراعي

الفصل الثاني والثالث والرابع من رواية تحت الطبع للكاتبة سعاد الراعي

حين تأكّدت من أن هدير النزيف في جسد الفتاة قد انحسر، وأن نبض الأجهزة عاد إلى إيقاعه الهادئ كأنّه تنفّس الحياة من جديد، خطت الممرضة خارج الغرفة بخطواتٍ متردّدة، تحمل في جيبها قلقًا صغيرًا أثقل من الحديد.
 كان الصباح ما يزال حائرًا بين العتمة والضوء، والممرّ الطويل يشبه مجرى نهرٍ فقد صوته، لا يُسمع فيه سوى أزيز خافتٍ لأجهزةٍ تصارع الصمت
.

في نهاية الممرّ، كانت امرأة تجلس على مقعدٍ خشبيٍّ طويل، يداها معقودتان على صدرها كأنهما تصنعان حول قلبها حصنًا هشًّا من الرجاء، ووجهها شاحبٌ يفيض بخوفٍ لم يجد منفذًا سوى عينيها. 
عرفت الممرضة، دون سؤال، أنها الأم. اقتربت منها بابتسامةٍ حاولت أن تُخفي ما يضطرب خلفها من ارتباك، وقالت ببضع كلماتٍ مقتضبةٍ إن الحالة مستقرة وإن الخطر قد انزاح، لكنها لم تذكر شيئًا عن الحرز. 
لم تستطع… 
كان هناك شيءٌ غامضٌ، كأنه حارسٌ غير مرئيٍّ، يمنع الكلمات من الانفلات. أحست أن السرّ لم يعد يخصّ المريضة وحدها، بل صار وديعةً بينها وبين القدر، بين الرحمة والمصادفة
.

حركت الممرضة نظرها بين ورقة الاستمارة والأم وسألت بهدوءٍ روتينيٍّ عن المعلومات اللازمة.
ـــ الاسم؟
قالت الام بصوتٍ مبحوح: “حياة عبّود.”
ـــ العمر؟
ـــ أربعة عشر عامًا.
ثم أضافت بعد لحظةٍ ثقيلة: “متزوجة… ولم تُرزق بعد بأطفال.”

ارتبكت الممرضة…

ارتدّ الصدى داخلها كصفعةٍ باردة: 

أربعة عشر عامًا؟!

متزوجة؟!

لم تُرزق بعد بأطفال؟! 

كانت الكلمات تنغرز في وعيها مثل إبرةٍ في عصبٍ حيّ. تمتمت ببعض العبارات الرسمية عن الفحص الاولي، وانسحبت سريعًا كأنّها تفرّ من شعورٍ لا تعرف له اسمًا.

جلست الأم بعد أن اطمأنت قليلًا، لكن عينيها ظلّتا معلّقتين بالباب المغلق، لا تغادرانه كأن خلفه عمرها كلّه. كانت ملامحها تحكي عن امرأةٍ استنزفها الزمن وهي تنتظر، امرأةٍ تعرّفت إلى الخوف حتى صار وجهًا آخر لها. 
كانت تعرف أن ابنتها، رغم صِغَرها، حملت في جسدها عبءَ حكايةٍ لا يحتملها قلبٌ واحد
.

في تلك اللحظة، كانت الممرضة قد عادت إلى غرفتها الصغيرة عند طرف المستشفى، والليل ينسحب من حولها مثل ظلٍّ مرهق. جلست أمام طاولتها الخشبية، وأخرجت من جيبها الحرز. كان قطعةً صغيرةً من الجلد الباهت، تفوح منه رائحةٌ تشبه الغبار الممزوج بالذكريات، وتلتف حوله خيوطٌ خشنة تشبه الخيوط التي تشدّنا إلى الحياة حين نحاول الانفلات منها.

نظرت إليه طويلاً… 

شيءٌ ما في تلك القطعة كان يوحي بأنها ليست مجرد تعويذة. كان فيها ما يُشبه النبض، أو ما تبقّى من نبضٍ عالقٍ في الأشياء. تساءلت في نفسها: 

ما الذي يدفع فتاةً لم تزل على أعتاب الطفولة إلى أن تتشبّث بهذا الحرز كما لو أنه خلاصها الأخير؟ 

أهو تذكار أمٍّ غابت قبل الأوان؟

 أم عهدُ حبٍّ باكرٍ لم يُكتب له أن يكتمل؟

 أم هو خيطُ خرافةٍ تغزلها الوحدة حين لا تجد ما تتوكأ عليه سوى الأمل؟

لكنها، رغم ما تربّت عليه من عقلانية وواقعية، لم تجرؤ على فكّ العقدة.
 شعرت أن مسّ هذا السرّ بغير إذن صاحبته خيانةٌ لروحٍ تتشبّث بما تبقّى لها من معنى. ضمّت الحرز بين راحتيها لحظةً كأنها تباركه بصمت، أو كأنها تستأذنه أن يبوح لها ببعض ما يخفيه
.

في تلك العزلة التي لا يُسمع فيها إلا صرير القلم على الورق، أدركت الممرضة شيئًا لم تقرأه في كتب الطبّ ولا في سجلات المستشفى: أن لكل إنسانٍ حرزًا خفيًّا يحمله في صدره، لا من جلدٍ ولا من قماش، بل من ذكرى أو خوفٍ أو وعدٍ لم يكتمل. وأننا نعيش ونحرس هذا الحرز، نُخفيه عن العيون ونخاف أن يسقط في سلة النسيان.

ربما كانت “حياة” ذلك الاسم الذي صار مفارقةً مؤلمة، أعمق وعيًا من كل من حولها. طفلةٌ في جسد امرأةٍ، تحمل بين ضلوعها صمتًا أكبر من عمرها، وتشدّ على تعويذتها كما يشدّ الغريق على آخر خشبةٍ تطفو في الموج. لم تكن تحتاج إلى معجزةٍ تُنقذها بقدر ما كانت تحتاج إلى يدٍ تفهم صمتها.

في الخارج، بدأ الضوء يتسلّل من النوافذ العالية، يلطّف وجوه الممرّضات المتعبات ويغسل الممرّات بلونٍ جديد. كانت قد غفت لحظات وهي جالسة في كرسيها. فتحت عينيها وحدّقت في الحرز، الذي لا زال في يدها، آخر مرّة، ثم أعادته إلى جيب مئزرها بتأن كأنها تعيد قلبًا إلى مكانه. أحسّت أن هذا الشيء الصغير بات يخصّها أيضًا، أنه صار شاهدًا على هشاشة العالم، وعلى قدرة الألم أن يجعل من أبسط الأشياء، خيط، قطعة جلد قديم، أو نظرة أمٍّ، معنىً للحياة نفسها.

ربّتت على جيبها برفق، ثم قامت لتواصل نوبتها. 
كانت في عينيها نظرةٌ جديدة، خليطٌ من الحنوّ والدهشة، كأنها رأت في تلك الفتاة الممدّدة على السرير الأبيض مرآةً خفيّةً لذاتها، لا امرأة تعمل بين مدارات المرض والشقاء والالم، لكنها تتعلّم كل يومٍ أن الحياة، مهما نزفت، ما تزال تتنفّس عبر حرزٍ صغيرٍ مخبوءٍ في القلب
.

(3)

صباح اليوم التالي…

 توقّفت سيارة “الجيب” العسكرية أمام بوابة المستشفى، تصدر أنينًا خافتًا تحت ثقل الغبار، كأنها تحمل سرًّا لا يريد أن يُقال.
 نزل منها رجلٌ متجهّم، في ملامحه قسوة الصحراء وريبة السلاح، يشدّ على بندقيته كما يشدّ على وهم السلطة. دخل إلى بهو المستشفى بخطواتٍ متعاليةٍ تصفع الأرض، واتجه نحو موظفة الاستقبال يطلب أن يُرشد إلى غرفة ابنة أخيه، ليأخذها إلى البيت ما دام النزف قد توقّف والحالة، كما قالوا لهم، مستقرة
.

تردّدت الموظفة لحظة، ثم تناولت الهاتف، واتصلت بالممرضة المسؤولة عن متابعة حالة “حياة”.
 جاء صوت الممرضة من آخر الممرّ لاهثًا، كأنها تهرول بين واجبها الوظيفي وخوفها الانساني.
 ظهرت بعد لحظاتٍ أمام الرجل، عيناها متعبتان لكنّ في نظراتهما صلابةً مكتومة، وقالت بصوتٍ يحاول أن يكون رسميًّا
:
ـــ “التقرير الجديد يشير إلى أن حالتها ما تزال خطِرة جدًا… هناك تمزقٌ شديد في جدار المهبل يمتد إلى خارجه، والنزيف عاد، وهذه المرة أشدّ حدة. الطبيب يرى أن الالتهابات الحادّة في الرحم قد تشير إلى عدوى خطيرة، ما يستدعي بقاءها تحت المراقبة لأخذ عيناتٍ واستكمال الفحوصات. وربما … 
وربما نُضطر إلى إجراء عمليةٍ… 
نعم اجراء عملية عاجلة. ثم إنها ما زالت في غيبوبة، والأجهزة موصولة بها حتى الآن.”

قطّب الرجل حاجبيه حتى غاب النور بينهما، وقال بصوتٍ أجشّ، تغلّفه الغضبة والجهل:
“حياة تتمارض كعادتها دائما. هي تفتعل كل هذا بذكاء. سأعود غدًا لأخذها، حتى لو كانت على سرير الموت.”
استدار…

غادر…

 كمن يغادر ساحة معركة، 

تاركًا خلفه هواءً مثقلاً بالتهديد والعجز.

وقفت الممرضة مكانها لحظة، تستجمع ما تبقّى لها من رباطة جأش. تنفست بعمق ثم اتصلت بالطبيب المشرف محاولةً إقناعه بضرورة التدخّل، خشية أن ينفّذ الرجل وعيده. لكن الطبيب لم يجد ما يقوله، فالوضع في البلاد:

 لم يعد يعرف قانونًا، والرحمة نفسها.. صارت مهدّدة بالسلاح.

أسرعت الممرضة إلى غرفة “حياة”. ما إن فتحت الباب حتى وجدت الفتاة ترتجف كعصفورٍ مبتلٍّ في ليلة عاصفة. 
جبينها يتصبّب عرقًا.
 عيناها المفتوحتان نصف فتحةٍ تفيضان برعبٍ صامت. 
رفعت يدها المرتجفة بإيماءةٍ صغيرة نحو الممرضة متمتمه باسمها.
 فهمت ايفا من النظرة قبل الإشارة: لقد سمعت كل شيء، سمعت صوت عمّها ووعيده، وسمعت في صوته مصيرها المتربّص به

اقتربت ايفا منها برفقٍ، تحدثها بنبرةٍ دافئةٍ كأنها تخاطب جرحًا لا إنسانًا. وضعت يدها على كفها وقالت:
ـــ “اهدئي يا ابنتي، لن يحدث شيء وأنت هنا.”
كانت تحمل في يدها ثوبًا نظيفًا، أرادت أن تبدّله بثوبها الملطّخ بالدم. 
حاولت أن تساعدها على رفع ذراعيها، لكن حياة كانت غارقة في إنهاكٍ كامل، كأن جسدها فقد كل صلةٍ بإرادتها.
 استدعت ايفا زميلةً أخرى، وقررتا: القصّ هو الحلّ الأخير
.

ما إن أخذ المقصّ ينهش الثوب المهترئ حتى انكشفت الحقيقة التي لا يطيقها قلب.
 علت في الغرفة صرخةٌ واحدة خرجت من فمين في آنٍ واحد، امتزج فيها الذهول بالغضب، والرأفة بالقهر.
 جسد “حياة” بدا كخريطةٍ من الألم، كأنها خارطة وطنٍ مضرجٍ بالجراح. 
كدماتٌ زرقاء وسوداء تتناسل فوق بعضها، جروحٌ لا تُحصى، بعضها ما زال ينزف، وبعضها اندمل على عَجَلٍ، يخفي تحته صمتًا أطول من الكلام
.

شهقت الممرضتان، لكنّهما تماسكتا، وأخذتا تنظفان الألم بالماء والقطن والمراهم. 
كانت أيديهما ترتعش وهما تنظفان الجراح، لا خوفًا فقط، بل عجزًا أمام اتّساع المأساة.
 لم تعودا ممرضتين تعالجان جسدًا مريضًا، بل شاهدتين على قسوةٍ تُمارَس في الظل، على أنوثةٍ مكسورةٍ ومعذّبة
.

حين انتهيتا، ألبستاها الثوب النظيف كما تُلبَسُ الطفلةُ في صباح العيد، وأعدّتا الفراش بعنايةٍ مفرطة، كأنهما تبنيان لها مأوى جديدًا بعد عاصفةٍ طويلة.
 جلستا إلى جوارها، تتناوبان العناية بها، والإنصات إلى أنينها الخافت الذي يخرج من صدرها كصدى بعيد
.

لم تتكلما كثيرًا، فالكلمات في تلك اللحظة بدت ترفًا. لكن نظراتهما كانت تقول ما عجز اللسان عن قوله: 
أن هذه الفتاة الصغيرة، التي صارت ضحيةً في عمرٍ لا يليق به الألم، تحمل في ضعفها نوعًا من البطولة الخفيّة، كأنها ترفض الموت لا لتعيش فحسب، بل لتشهد على قسوة العالم
.

خارج الجدران، كانت البلاد تغلي بالفوضى، والقوانين تتساقط كأوراقٍ يابسةٍ في ريح الحرب، لكن داخل تلك الغرفة الضيقة، وُلدت لحظة إنسانية نادرة، لحظة مقاومةٍ صامتةٍ لا سلاح فيها سوى الرحمة.

أدركت الممرضة ايفا، وهي تنظر إلى وجه “حياة” الغارق في الشحوب، أن هذه الطفلة، رغم عجزها، كانت تقاوم بطريقتها الخاصة:
 بصمتها، ببقائها على قيد التنفّس، وبحرزها الصغير الذي ظلّ يرافقها كإيمانٍ لا يُكسر.
 وفي قلب ايفا، تردّد يقينٌ جديد:
 أن بعض الأرواح، مهما انكسرت، تظلّ تحمل في داخلها بذرة نورٍ لا تُطفئها يدُ القسوة، بل تزيدها اشتعالًا

(4)

كانت حياة، حين يثقلها الليل وتستسلم لجمر الذاكرة، تُصارع كوابيسها كمن يُصارع ظلًّا غادرًا في عتمةٍ بلا ضوء. تهتف بصوتٍ حادٍّ يخلع سكون الجناح، تشدُّ شعرها بعنفٍ كأنها تنتزع من رأسها جذر الألم نفسه.
 تهرع إيفا، ممرّضتها، بخطواتٍ مذعورة، تفتح الباب على مصراعيه، لتجدها تتلوّى تحت ضوءٍ خافت كشمعةٍ في مهبّ الريح
.
تقترب منها بخفةٍ وحنوّ، تروح تفكّ ما بقي من خصلات شعرها المشتبكة بين أصابعها المرتجفة، تهمس في أذنها بصوتٍ يشبه النسيم
:
ـــ “اهدئي يا حياة، أنتِ في أمان… أنا هنا.”

تفتح حياة عينيها المرهقتين، تحدّق في وجه ممرضتها بعينين غائرتين يقطران رجاءً يائسًا، وتقول بصوتٍ مخنوق كأن الحروف تخرج من جرحٍ لا من فم:
ـــ “خلّصيني منه يا ايفا… من عمي… قبل أن يأتي… إنه قريب… أشعر بظلّه يزحف نحوي… إن هذا الباب هو فم الجحيم نفسه… أرجوكِ… خلّصيني… بأي وسيلة… حتى لو بالموت… الموت أهون من أن أراه يدخل.”

كانت كلماتها تخرج متقطعة، تتلوها رعشةٌ خفيّة في أطرافها.
ومن وراء الباب، انبعثت صيحات عجلى سريعة رافقها دخول ممرضة أخرى تنادي إيفا وتستحثها على عجل:
ـــ “ثمة حالة طارئة في الجناح الآخر”!

وقفت إيفا مضطربة بين واجبها وشفقتها، ثم قالت بنبرةٍ حنونة فيها وعدٌ بالعَودة:
ـــ “أنا سعيدة لأنكِ تكلّمتِ أخيرًا يا حياة…
 أعدكِ أنني سأعود بعد قليل، وسنقضي الليل معًا في الحديث. والآن حاولي أن ترتاحي.”

وحين همّت بالمغادرة، سقط من جيبها قلمٌ معدني صغير، لم تنتبه له وهي تسرع.
 بقي القلم على شرشف السرير، يلمع تحت الضوء الضعيف كخنجرٍ مكشوف
.

مدّت حياة يدها بسرعةٍ والتقطته. تأمّلته لحظة، شعرت بثقله في كفّها الضئيلة، كأنه وعدٌ غير معلن بالدفاع عن آخر ما تبقّى من كرامتها. خبّأته تحت الغطاء بحذرٍ، وأطبقت عليه بأصابعٍ مشدودة، كأنها تُمسك بآخر حبال النجاة.

كانت تعلم أن عمّها لن يتراجع، وأن تهديده ليس مجرد كلماتٍ عابرة.
ذلك الرجل الذي لم يعرف الرحمة يومًا، ولا يتورّع عن اقتحام أي مكان ليبلغ ما يريد، ولو كان عليه أن يقتل العالم كلّه ليخفي جرمه
.

الليل يمضي ببطءٍ قاسٍ، وصمت المستشفى يتكاثف كغبارٍ خانق.
الأنوار الخافتة تتماوج فوق الجدران البيضاء، والظلّ يمدّ أصابعه الطويلة حتى يصل إلى وجهها.
كانت تسمع دقات قلبها تعدّ الثواني، وكل ثانية تمرّ عليها كأنها عام من انتظار العذاب.
أذناها تترصّدان أدنى صوتٍ في الممرّ، خفقةً، صريرَ عجلاتٍ، همسَ حارسٍ بعيد، وكلّ همسةٍ تُفزعها كأنها وقعُ حذائه يقترب.

زحزحت نفسها على السرير، راغبة ان تسند ظهرها إلى الوسادة، والقلم في يدها اليمنى كرمحٍ صغير. عيناها لا تفارقان الباب، باب الغرفة الذي تحوّل في خيالها إلى فمٍ مفتوحٍ لوحشٍ ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض.

مرّ الوقت متثاقلاً، وتعبت أجفانها من الحراسة.
تسلّل إليها النعاس خفيفًا، لا كراحةٍ بل ككمينٍ آخر من جسدٍ أُنهك من الخوف.
أغمضت عينيها لحظة، فراحت ترى الطفلة التي كانتها ذات يوم، ذات العشرة أعوام، حين دُفنت روحها حيّة تحت ركام الخوف والعار.
 رأت نفسها هناك، في بيت العمّ، بصراخها المكتوم، ودموعها تبلّل الأرض، وصوت الباب ذاته يُغلق خلفها كإعلانٍ للموت البطيء
.

انتفضت من غفوتها على وقعِ الريح تداعب النافذة.
رفعت رأسها، تتأمّل الظلام خارجها.
السماء حالكة، لكنّ نجمةً وحيدة كانت تلمع من بعيد، وكأنها تناديها بصبرٍ خافت: 

“ما زال في آخر الليل فجرٌ ينتظر.”

ابتسمت ابتسامةً واهنة، فيها مرارةٌ وأملٌ مختلطان، كمن يتذكّر أنه لا يزال حيًّا رغم كل شيء.
رفعت القلم أمام عينيها، تلمع نصلته المعدنية تحت الضوء الشاحب، وقالت في سرّها:
“لن أكون فريسة بعد الآن… لن أعود إلى القبر الذي جئتُ منه حيّة.”

يتبع


الحرز (1)

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.