ثرثرة العواجيز (1)

ثرثرة العواجيز (1)

اللوحة: الفنان الروسي بيوتر ديك 

صادق:

أنا وحيد يا وحيد… هل تسمعني؟ هذه خلاصة مشاعري التي لا تفارقني. حتى أنت، الذي كنت أعتبره صديقي الأقرب، لم تعد تقنعني بأنني لست وحدي. أشعر أنني غادرت منذ زمن، وما يتحرك الآن ليس سوى بقاياي.

ثمة طبقات شفافة وصلبة تحيط بي؛ تمنعني من أن أفهم أو أن يُفهَم ما بداخلي. لماذا لم أشعر بهذا إلا الآن؟ ماذا تغيّر؟ أهذه هي حصيلة العمر كلّه؟.. الوحدة، غياب الفهم، نقص التفاهم… كل ذلك يتكدس في لحظة واحدة.

زكي:

المشكلة يا صديقي أننا منذ ولادتنا في عزلة، لكننا نخفيها بالزحام.زحام الناس، والمهام، والارتباطات، والمنافسات، وزحام الأحلام والهموم. نصحو لنغرق فيه، وننام لنفلت منه؛ كي لا نواجه السؤال المخيف: هل نحن وحيدون حقًا؟

لم نكن نتبادل مع الناس فهمًا أو تعاطفًا… كنا فقط نتدثّر بهم.

زحام يشبه صالة سينما: ضوضاء، وشاشة لامعة، وعيون مأخوذة بسحر مؤقت، وخيال يضل ثم يعود. وتظن أنك تحيا في انسجام، بينما لم تختبر يومًا شجاعة السؤال: هل أنا وحيد؟

صادق:

عندك حق… اكتشفت أن العمر مرّ بين سؤالٍ وجواب، وأمرٍ وطاعة.حوارات كثيرة، لكنها لم تكن بوحًا حقيقيًا؛ نتحدث مع الزوجة عن تفاصيل الحياة والأولاد… وننسى أنفسنا. نتحدث مع الأولاد عن مستقبلهم… وننسى أنفسنا. وفي العمل والمجتمع نغرق في الأخبار والأحداث… وننسى أنفسنا.نسينا أن نتبادل ذلك الارتباط المعنوي الذي يزيل الوحشة ويهدم الحواجز.

ومفاجأة العمر أن تمضي عشرات السنين لتكتشف أنك لم تفهم أحدًا، وأن أحدًا لم يفهمك.الحاجة للفهم تأتي بعد فوات الأوان… وما أغربنا وما أعمق غفلتنا!

لماذا لا نشعر بالألم إلا في نهايات الطريق؟ ولماذا يصبح اكتشاف سبب وحدتنا سؤالًا وجوديًا لا نلتفت إليه إلا حين يضيق الوقت؟

زكي:

عند ربيع العمر تتوقف الساقية، ويُرفع عن الثور الغِمامة. يقف مذهولًا من السكون المفاجئ، ويعود إليه السؤال الذي طرده من ذاكرته: «ماذا أفعل الآن؟»

الثور لم يتدرّب على السير خارج الدائرة التي دارت فيها حياته، فهل يعقل أن يُترك حرًا فجأة؟

نحن لسنا ثيرانًا، لكننا نلتقي معها في اللحظة نفسها: لحظة السؤال المؤجّل، والضرورة القاسية.

نسأل: هل أنا وحيد؟ هل أنا غير مفهوم؟ لماذا لا أفهم أحدًا؟

هذا هو ثمن النجاة من الموت المبكر… وثمن عودة الوعي بعد سنوات طويلة من القمع والكبت والإنهاك.

صادق:

طيب… ما رأيك أن نحاول أن نفهم بعضنا؟

زكي:

هههه… أنت تعلم أنك تطلب المستحيل! الفهم لا يولد في آخر الطريق. ليس كلمات نتبادلها، بل بدايات صغيرة: مشاعر تُقال بسذاجتها الأولى، وأفكار، ورغبات، وبوح، كلها كانت لتُطرح مبكرًا… قبل أن ييبس الجسد ويشيخ القلب.

الفهم مشكلة هذا الجيل في طفولته، لا في شيخوخته. ولن يعرفه إلا من تربى على حرية التعبير، وترك للآخر حق التعبير أيضًا. هناك فقط تلتقي الأنهار.

أما نحن… فقد جئنا متأخرين. فلنعفو عن أنفسنا من الحيرة العقيمة، ونسأل أنفسنا أسئلة أخرى.

صادق:

مثل ماذا؟

زكي:

مثل؛ هل أنا إنسان صالح؟ مفيد؟ مسالم؟ مؤمن؟ كريم؟ محب؟ صادق؟.. أسئلة بسيطة، لكنها تفتح أعماق الإنسان على نفسه.

صادق: هل تعرف سبب هذا السؤال؟

أثارته أخبار الرفاق الذين يتساقطون فجأة، بلا مقدمات. برحيلهم ترحل أجزاء منا لا نجدها إلا عندهم.حين يغادر الإنسان مكانًا، يترك فراغًا… ثم يرحل هو أيضًا.ما نتركه في ذاكرة من رحلوا قليل، مقارنة بما فقدناه.

ولو سبقتني… ستترك فراغًا كبيرًا في بيتي، سأظل في انتظار اللحاق بك. ولو سبقتك… ستكون أنت من يعاني في غرفة الانتظار الباردة والفارغة، وحيدًا مثلنا جميعًا.

زكي:

هل تعلم؟ أنا لا أندم على كل ما مرّ، ولا أتمنى استعادة شبابي، لكني أحمل أمنية مستحيلة… أريد أن أولد من جديد، لكي أحيا حياة مختلفة… حياة بلا إنجاب.

صادق:

قلت: هل تقصد أنه لو عاد بك الزمان لن تتزوج؟

زكي:

سأتزوج، نعم… ولكن لن أنجب.

سأبحث عن امرأة لا تستطيع الإنجاب. أحيا معها، ونتفاهم ونحب… أو نختلف ونفترق.ولو تذوقنا الود والحب والسعادة، ربما نشتاق للأولاد لاحقًا… لا بأس.

لكن سيكون كل شيء قرارًا، وليس تقليدًا لإملاءات آبائنا.سأتبنى طفلًا وطفلة، وأفرغ فيهما كل مشاعري ومشاعرها، كأب وأم، بلا رابطة دم.

صادق:

هل تدرك ما تقول؟ لقد عدت إلى نفس الحياة الأولى: زواج وأولاد… فما الفرق؟

زكي:

هناك فروق كثيرة.

أولاً: الوعي؛ الوعي الذي يجعلني أتزوج بهدوء، ولغرض واحد فقط: الزواج ذاته.زواج دون خطة لاحقة أو ضغط من المجتمع. أتزوج من تسعدني، وأطمئن لمؤهلاتي ومؤهلاتها للسعادة.

هذا لم يحدث لنا، ولا لأي أحد آخر.

في حياتنا الأولى، ندخل نفق الزواج بقائمة عاجلة: الزواج، الإنجاب، التعليم، حتى امتداد العمر لتزويج الأحفاد… خطة غريزية لا تنتهي إلا بالنفس الأخير.خطة تُفرض تحت ضغط المجتمع وتلقينه لنا، دون أن ندرك أننا مرغمون.

ثانيًا: في حياتي الثانية سأختبر متعة أن أطعم غيري ممن لا ينسب لي؛ أمنحهمكل مشاعر الأب والأم بلا رابطة دم… وهذا جديد كليًا.

قلة هم من يجربون هذا الطعم اللذيذ، ويكتشفون فيه حاجة داخلية لم يعرفوها من قبل.حياة مختلفة… تدريج، تأني، إحسان ليتيم دون أن ينتظر نداء الدم.

صادق:

أعتقد أنني فهمتك… أنت تقصد أننا فعلنا مثل كل الناس، والناس ليسوا سعداء، ومع ذلك نفعل مثلهم. ولم نسعد مثلهم، ولهذا ترغب بخيار آخر، حرًّا، غير ملزم.

زكي:

ابتسم الصديقان، وساد بينهما الصمت والتأمل… مستمتعين بما تبقى بينهما… بينهما فقط؛ التفاهم… حين يدور الحديث بينهما، يفهمونه “وهي طايرة”، بلا قيود، بلا تأويل.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.