اللوحة: الفنان المغربي عبد الرحيم فشتالي
ماهر باكير دلاش

بين شخوصنا وشخصياتنا نرى تجاعيد المرآة ونضارة أرواحنا، أليست الصورة الخيالية غير الواقعية هي في الحقيقة نتاج عقل نائم يوجد في الحاضر ولا يوجد فيه، ويقيم منطقه على عاطفة المرء ومشاعره، ومن ثم يرى نفسه في مركز العالم، ويعمل تحت سيطرة تامة من اللاوعي؟!
ثمّة قيمة مهمّة نغفلها في أحيانٍ كثيرة في علاقاتنا التي نرتبط بها بشخصياتنا وعلاقات نرتبط بها بشخوصنا، فالشخوص تحدد العلاقات المادية وهي علاقات سريعة الانتهاء، أما الشخصيات فهي صقل لطبيعة الروح وأساس العلاقات الروحية والروحانية التي تحدد مسار تلك العلاقات الإنسانية، وليس من باب الاعتياد أو من باب أفضل الموجود، وهي اقتناعنا بالطرف الآخر.
أن ننظر في انعكاس وجوهنا في المرآة ولا نرى تجاعيد المرآة ونرى نضارة أرواحنا، أن نفهم لماذا نحبّ ولماذا نكره، لماذا يستحقّ هذا الآخر أيّ شيء نقدّمه في سبيله، أن نكون على قناعة بأنه يستحقّ المشاعر الّتي تكبر فينا كلّ يوم بعد أوّل شعور لم يكن تمامًا من اختيار عقولنا.. أن نكون معه قادرين على إعادة الكرّة مرّات ومرّات، فنختار هذا دون سواه، الوعي للجميل فيمن نحبّهم، للتّفاصيل الّتي تجعلهم ما هم عليه، للقبح الّذين يجاهدون للتّخلّص منه، لما يقدّمونه في سبيل ضمان وجودنا في حياتهم.
بين الحب السامي والحب الراقي شعرة واحدة.. فإن وصل الحب الراقي إلى السمو، تحول إلى ود ووداد ثم يتشكل في سلوك إنساني فطري “مودة”.
قد يلوذ المرء من ضيق نفسه بسعة حرف ملتو على نفسه يأتيه بعد انتظار… متى سيأتي ذلك الحرف ليتفتح كالوردة من حرف داخله مشاعر؟!
لكي يبقى الجميل في عينيك جميلاً، ويستمر الوداد لا تقترب كثيراً.. البعض أجمل من بعيد، فحافظ على المسافة بينك وبينهم.. لقد علمتنا الكتابة أن نترك مسافة بين الكلمة والكلمة لكي يفهم الآخرون ما نكتب.. وعلمتنا حركة المرور أن نترك مسافة أيضاً بيننا وبين السيارة التي أمامنا؛ حتى لا نصطدم بها.. وكذلك علمتنا حركة الحياة أن نترك مسافة بيننا وبين الآخرين؛ حتى لا نصطدم بهم، أو نتصادم معهم.
يقول شوبنهاور في قصة رمزية من باب إيصال الفكرة والاسقاط على الواقع “إن مجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها في إحدى ليالي الشتاء المتجمدة طلباً للدفء، وهرباً من الجو الجليدي شديد البرودة، لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر، كلما شعرت بوخز الأشواك التي تحيط بأجسادها، مما يسبب لها المزيد من الألم.. وأنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض شعرت بالبرودة وتجمدت أطرافها، وبحاجتها للدفء في أحضان أصدقائها! بقوا على هذه الحال بين ألم الاقتراب، وهجير الانفصال؛ الى أن توصلوا الى المسافة المناسبة التي تقيهم من برودة الجو الجليدي وتضمن لهم أقل درجة من ألم وخز أشواك الأقارب!!”
كل منا له عيوبه وأشواكه الخاصة التي قد لا تظهر ولا نشعر بآلام وخزاتها إلا عندما نكون على مسافة غير مناسبة.. البعض يعتقد أنه كلما ازداد قرباً من الآخرين فإن هذا سيشعرهم بالسعادة، وهذا ليس صحيحاً على الدوام، فحتى الاهتمام الزائد قد يفقد معناه وحميميته ويتحول الى اختناق يشعر معه الآخرون بالضجر والتململ الذي قد يتحول الى نفور وكراهية.. فلكل إنسان خصوصيته وحدوده التي يحرص على أن يحترمها الآخرون مهما كان.. بل ربما تكون علاقاتك الانسانية أجمل وأكثر قدرة على النمو والازدهار إن تركت لها المسافة الكافية للنمو؟!
وجدتُ الكتابة بلسماً… جنّبتني خيبات أمل من لا يحالفهم الحظ، إذ طالما كانت موضع سرّي وجليستي المفضلة.. أجل لنبتسم من قلوبنا وننسى الماضي… فالمستقبل كلّه ينتظرنا… والحبّ كفيل أن يلأم كل الجراح…بت عاشقاً من غير سبب سوى أن خيالي هيأ لي صورة جميلة، صورة فخمة لقصة حب أسطورية ذات أبعاد ثنائية وربما ثلاثية.. وكلما جمعت المزيد عنها كلما اعتقدت أني اعرفها أكثر!!
كنت أصغر من أدرك أن خيطاً رفيعاً يفصل بين الكراهية والحب وأننا أثناء الحب نتأرجح فوق ذاك الخيط بلا تحديد.. أحيانا هنا وأحيانا هناك قبل أن نستقر على جانب ولا نستقر!!
ما كنت اعلم في ذاك الوقت أن الإنسان في عمق العمق ليس حراً.. فهناك الحب وهناك الحرب وهناك المرض والشيخوخة وهناك الحوادث والصدفة.. وهناك الموت.. أمور ننكرها ونحن صغار لفجاجتنا ثم ندرك أن الأقدار تكسرنا ولا تتكسر!!
لا تقلق إن بادلك الآخرون الحب أم لا.. إن تجاوبوا معك أم لم يتجاوبوا… بل كن سخيًا معطاء بحبك.. كنهر متدفق.. وسيأتي الفرح مهرولا إليك… الفرح يتبع الحب تلقائيًا وهذا هو جمال الحب وروعته، فابحث عن نضارة الروح حتى لو كانت المرآة مهشمة… إنه لا يعتمد على استجابة الآخرين، بل يعتمد عليك بالكامل…