اللوحة: الفنان السويدي كارل لارسون
لم أكن أعي تماما ما تعنيه كل كلمات اللهجة الشامية، لكني – وبشغف – كنت أحفظ ما يعزف أوتار سمعي من ألفاظها المنحوتة والمختصرة أحيانا، وهي تتدفق كشلال فضي في قلبي مع صوت الملائكة “صوت فيروز”.
ولارتباطي بفيروز حكاية، على ما يبدو أني كنت أميل مذ اخضرت جدائلي إلى القصة المحكية، فأسبح بخيالي الخاص جدا في أحداثها، أصور مشاهدها كما أشاء من جموح، ربما أذكى ذلك في روحي شدة ارتباطي بالإذاعة وما كانت تقدمه من درر تركت أثرا عميقا في بناء شخصيتي؛ فكنت لا أفوت مادة درامية إلا تابعتها بشغف شديد، فعشت مع مؤلفيها ومخرجيها خيالاتهم، وحلقت مع ممثليها في أدائهم.
لعلي شططت بعيدا مما يثير التساؤل الآن: ما علاقة ما رويت بفيروز وحكايتي معها؟ لكني لم أبتعد عن بغيتي إلا بقدر التوطئة فقط.
كنت – كما أسلفت – أرتبط بالإذاعة ارتباطا شديدا؛ فهي وسيلة الترفيه التي أملك في ذلك الوقت، وكان ما تقدمه من منوعات عبر أثير البرنامج العام أو إذاعة الشرق الأوسط، والبرنامج الثقافي، وصوت العرب، والشباب والرياضة أحيانا، كان له أثر كبير في تكويني لغويا وثقافيا، وإن شئت القول: وتخيليا أيضا، وكانت إذاعة الشرق الأوسط تقدم وقت الظهيرة – يوميا – مساحة للأغاني المنتقاة لأصواتنا العربية الجديرة بالاستماع، ومن هؤلاء كان يوما مخصصا لأغاني السيدة فيروز.
بالطبع لم أفهم كل المفردات التي تغنيها فيروز، فاللهجة الشامية لا تشبه لهجتنا في كثير من النحوتات اللفظية، فمثلا لم أفهم قولها “تا” التي تعني “حتى” إلا “بالوما” أي بالإشارة والتخمين وفقا لموقعها بالجملة، وظللت سنين أردد “التل” بديل “التلج” وأتخيلها تلا أخضر لأن “التلج” لم يرتبط ببيئتي، لكني ارتبطت بالتل، ولعبت فوقه كثيرا مع الصغار في بلدتنا النائية، حيث مسقط رأس أبي رحمه الله وغفر له، وظللت أردد “علقت ع اطراف الوادي” “علقت عفرة بالوادي” وتخيلتها كذلك لكون القتال بين الناس فوق التلال لابد أن يثير الكثير من الغبار.. وهكذا كان تفسيري لبعض المصطلحات اللهجية لفيروز.
كنت وقتها طفلة لم أنهِ مرحلة التعليم الابتدائي بعد، حينما جاءني صوتها يصدح بحكاية محزنة، أسرتني لأحلق معها في دروبها، إنها حكايتها مع شادي، حكاية تبدأها بتوطئة جاذبة للأطفال في مثل عمري “كان ياما كان”:
من زمان أنا وصغيرة
كان في صبي يجي من الاحراش
ألعب أنا وياه
كان اسمه شادي..
***
ثم تحلق بك الموسيقى لتحفزك على متابعة البحث عن تتمة القصة:
أنا وشادي غنينا سوا
لعبنا على الثلج
ركضنا بالهوا
كتبنا على الأحجار قصص صغار
ولوحنا الهوا
***
وككل الصغار، كنت أركض معهما، لكن على التل الخاص بي، فلم يكن ثمة ثلج ألعب عليه في بلادي، كنت أركض، وألعب وأغني، وأكتب قصصي معهما، وفجأة تشتعل الحرب:
ويوم من الأيام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بها لدني
وصار القتال يقرب على التلال
والدني دني.
وعلقت ع اطراف الوادي
شادي ركض يتفرج
خفت وصرت انده له
وينك رايح يا شادي
انده له وما يسمعني
ويبعد يبعد بالوادي.
***
تلك الحرب بين طرفين متخاصمين، جرفت سعادتنا وبراءة طفولتنا في سيلها المدمر بالوادي، رحلت زوبعتها، لكنها سرقت شادي، أضاعته للأبد:
ومن يومتها ما عدت شفته
ضاع شادي.
***
في البداية، لم أتخيل أبدا، أو بالأحرى لم يطاوعني قلبي أن أتخيل موت شادي في تلك الحرب الغبية، لكن لوعة صوت فيروز يختم القصة بما لا أريد أن أصدقه، إنها تتلوى ألما، تئن دون بكاء، تترك حزنها الممتد داخل روحي، تؤكد رحيل رفيق طفولتنا للأبد:
والثلج إجا وراح الثلج
عشرين مرة إجا وراح الثلج
وأنا صرت إكبر
وشادي بعده صغير
عم يلعب ع الثلج
ع الثلج!
للاستماع للأغنية
عشت مع شادي، وتقمصت شخصية فيروز في الحكاية، وحفظتها عن ظهر قلب، وصرت أغنيها متأثرة باكية، ومختالة أيضا بها بين الرفاق، فمن منهم يعرف فيروز أصلا، أو يهمه الاستماع لها؟ وقد كانوا يتعجبون كيف أفهم لهجتها! ويسألون عن معاني ما أقول “بالمصري”، وأنا أتيه بما أقص – من معاني أغنياتها الأثيرة عندي -عليهم، وكلما أنصَتُّ لأغنياتها؛ ازداد ارتباطي بها، وتوطدت عرى المحبة بيننا؛ فقد تميز الرحبانية وتاجهم فيروز بما لم يتميز به الكثيرون من كتاب وملحني الأغنية العربية في ذلك الوقت، ألا وهو قصر الأغنية، وبساطة لحنها، واحتوائها على حدث درامي؛ فكانت مثل كبسولة سريعة من المتعة والجمال والأناقة التي لا تغادرك حتى تكون قد عانقت روحك؛ فأنبتت داخلك غابة من الأشجار والزهور النادرة، وأطلقت عصافيرها وبلابلها حاملة إياك على أجنحتها حيث السهول والوديان والبحار والآفاق الرحبة.
هكذا – وبلا مبالغة – كنت أحلق مع فيروز في كل أغنية، ويشفع لها جمال ما تتركه داخلي من متعة، غفران عدم فهمي لكل ما تقول، فكانت علا قتنا – أنا وهي والرحابنة – مثل عاشق للفن أذهلته السريانية التجريدية بتداخلات ألوانها.
