إرهاصات

إرهاصات

اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيج كيرشنر

محمد محمود غدية

هناك أسباب عديدة، تلقي بالتجربة بين اثنين، على أرصفة الطرقات، ليس من بينها التقارب والتباعد، وانما أشياء لا نملك أمامها سوى الاستسلام، ويبقى السؤال: لماذا لا تختفي كل الأشياء باختفائها، الطرقات والكافيهات، وممشى الحدائق والمنتزهات، حتى لا يبقى أثر لشيء، أي شيء كان له وجود، سيكون بلا شك أسهل وأقل مرارة.

في ذلك المقهى، التقيا واحتسيا فناجين القهوة والثرثرات، واحتضن كفها والعيون والأمنيات، حتى محل العصائر الشهير في ناصية الشارع، شربا عصير المانجو، وهو يتأمل وجهها التفاحي، كم كان جميلا، كنوار اللوز والبرتقال، حلو الحديث، كدفقة النور والسوسنات، واسع الصدر كالسهل، صافيا كالسحاب، مثل عين ماء جارية، سخيا كحقل عنب وثمر الرمان، وجهه قمحي مليح القسمات، لا يهتمان بالأمس والغد، لا شيء سوى اليوم فقط. ضوء النهار يخبو، استعدادا لاستقبال الظلام، وتبقى الذكرى تصحبها مركبات الوحدة دونها.

عندما ننظر من ثقب الباب، فإننا لا نرى الأشياء بنفس الطريقة التي نراها، ونحن على عتبات الباب المفتوح، تدهشنا التفاصيل والجزئيات، كذلك الأشياء بعد أن تذهب، تنهشه المدينة فهي دونها، مغلقة بستائر الشتاء التي في لون الكفن، ترتعش أوصاله وترتجف، تتعثر خطواته، وتخبو أغنياته، وتعلوا صرخاته، بحثا عن لحظة دفء، دون جدوى.

كل ليلة يعتلي صهوة حلمه العقيم، يتفكك ويتهاوى، كتب فيها أجمل الشعر والقصص، كان يطيب لها سماع الأغنيات، التي توثق فرحتهما، وهما على جسر الأشواق.

عاد ابن العم، أسبوع واحد تم الزفاف والسفر، يتجرع دونها الآلام وعذابات الهجر، مثل الممثل على مسرح الحياة، يعيش الدور الذي كتبه المؤلف، وأثناء العرض، يتلقى خبر فقد عزيز، فيكمل دوره على المسرح، فلا ذنب للنظارة الذين بذلوا توفير ثمن التذاكر، من أجل المتعة لا غيرها، وعلى الممثل تجرع آلام الفقد وحده، حتى انتهاء العرض، وتغيير ثيابه ورحيله، واسدال الستار.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.