اللوحة: الفنان السوري نافع حقي
د. خالد عزب

ولد العقل النقدي مع الإنسان، وسهلت شبكة الأنترنت الاستدعاء من الماضي السريع للنقد، فتصاعدت حدة النقد على كافة الأصعدة، فهل لدى أي سلطة القدرة على الحد من هذا النقد وإدارة نقاش معه، وإلا يتحول هذا النقد إلى حالة من السخط.
لكن ما هو النقد إذًا: النقد هو الجهد العقلي والعملي الذي يتجه لعدم تقبل الأفكار وأساليب القول والفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية وسائر العلاقات التي بعالمه ومجتمعه تقبلا أعمى، وهو جهد يبذل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، يكون تمييز المظهر فيها من الجوهر، والبحث في أصول الأشياء وجذورها، وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح… إلخ، أي معرفتها معرفة تفضي إلى تغييرها من أساسها على هدى ” نموذج ” متصور وممكن في آن واحد.
- لكن هل وجد النقد في تراثنا العربي والثقافة العربية؟
نعم وجد، لكن تم تهميشه لصالح مبدأ السمع والطاعة حفاظا على سلامة المجتمع من نزاعات بعضها متوهم، لكننا نلاحظ أنه منذ فترة مبكرة كان المفكرين والفلاسفة المسلمين مهتمين بالإقناع والإفهام الذي عبر عنه الجاحظ بالبيان والذي يقول عنه: ” البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضى السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي كان يجرى إليها القائل والسامع إنها هو الفهم والإفهام فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع”.
يظهر هذا التعريف أن بلاغة الجاحظ تكتسي بعد تداويليًا، بحيث تعتني بقضية ” إفهام السامع، وإقناعه” فالإفهام بهذا المعنى ينطوي على استحضار الآخر من جهة، واعتبار الوظيفة التواصلية للقول من جهة أخرى.
الجاحظ من هذا المنطلق هو صاحب نظرية الإقناع، فقد انتبه إلى سلطان الكلام وعارضه الاحتجاج، ومالهما من مفعول في الاستمالة وجلب انخراط المستمعين، لذلك ربط البلاغة بالإقناع، يقول الجاحظ ” جمع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة”.
فالبلاغة تغدو وسيلة للتأثير على المستمع، والظهور عليه وإقناعه بالرأي، إن القول البليغ منذور لتحويل حياد المتلقي أو معارضته إلى تجاوب، دكتور محمد العمري لخص الأغراض الإقناعية حسب تصور الجاحظ في: “استمالة القلوب والتصديق وفهم العقول وإسراع النفوس والاستمالة والاضطرار والتحريك وحل الحبوة”.
علم الجدل والمناظرة
برزت حاجة المجتمعات إلى علم الجدل الذي يبين محي الدين بن الجوزي مدى الحاجة إليه على النحو التالي: “اعلم – وفقنا الله وإياك أن معرفة هذا العلم لا يستغنى عنها ناظر، ولا يتمشى بدونها كلام مناظر، لأنه به تبيين صحة الدليل من فساده- تحريرًا وتقريرًا. وتتضح الأسئلة الواردة – من المردودة- إجمالا وتفصيلا، ولولاه لاشتبه التحقيق في المناظرة بالمكابرة ولو خلى كل دمع ودعوى ما يرومه على الوجه الذي يختاره، ولو مكن كل مانع من ممانعة ما يسمعه- متى شاء- لأدى إلى التخبط وعدم الضبط، إنما المراسم الجدلية تفصل بين الحق والباطل، وتميز المستقيم من السقيم فمن لم يحط بها علما كان في مناظرته كحاطب ليل”.
تتحدد المناظرة إذنا بخواصها التخاطبية والجدلية، ومن ثم فهي مماسة حجابية تهدف إلى تشكيل رأي أو معرفة مشتركين، وبذلك فهي تتطلب طرفين في وضع تفاعل. تطورت المناظرة في التراث العربي الإسلامي عن الخطابة، واستنبطت الكثير من آلياتها الإقناعية إلا أنها انطبعت أكثر بسمات الحاجة الفكرية والمذهبية.
لم تكن المناظرة في التراث العربي تنازلا أو صراعا بلا معنى، بل شكلت نوعا من المفاكرة القائمة على احترام الآخر ورأيه، واكتسبت صفة البحث المعرفي.
يزخر تراث العرب بالحوارات الفكرية الثرية التي كان منبعها ترشيد الصراع الفكري والمذهبي والحيلولة دون تحوله إلى صراع عنيف، كان العرب يهدفون من حواراتهم الانتصار للحق، وهو هدف يختلف تمامًا عن الجدل اليوناني الذي يقوم على الانتصار للرأي صائبا أم خطأ، هكذا اختلفت الرؤيتين وانطلاقتهما الفلسفية، وانعكس هذا في احترام المذاهب الإسلامية على اختلافاتها للآراء المتضاربة أحيانا، وهو ما يبرز آداب المناظرة والحوار، وهو ما افتقدناه في الخطاب العربي المعاصر.
اختفى علم الجدل والمناظرة من أدبيات العرب المعاصرة، إذ جرى وأده لأنه لا يتسق مع سمة الأنظمة العربية، وعلى جانب آخر رأت فيه تيارات الإسلام السياسي نسقًا يتضارب مع فكرة السمع والطاعة والتبعية، كما أن ضعف التكوين للدعاة وعلماء الدين العلمي لا يصب لتكوين علماء لديهم القدرة على خوض غمار الجدل، في حين أن علم الجدل ما هو إلا ترشيد لاختلاف الآراء ولو جرى الاستثمار فيه سيصب في صالح المجتمعات العربية، إذ سيرشد التعصب الديني والمذهبي، وسيحدث حوارات صحية حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن المناظرة بوصفها جنساً حجاجياً تبلور في الثقافة العربية الإسلامية بفعل عوامل دينية وسياسية وثقافية/حضارية، فالعوامل الدينية، ارتبطت بالدعوة السمحة والمفتوحة للقرآن، بحيث شكلت خصائصه الحوارية والجدالية دافعاً قوياً نحو تبلور جنس المناظرة ونشاطه، وارتبطت العوامل السياسية بالتدافع بين الشرعيات وأوجه الصراع السياسي حول الخلافة، أما العوامل الثقافية – الحضارية فتعود إلى الصراعات المذهبية وحصيلة التفاعل بين المذاهب والأفكار والمرجعيات والأجناس والأقوام… وهي عوامل ساعدت على تطور هذا الخطاب وشجعت على تناميه، فكانت النتيجة أن شكلت المناظرة جنساً قائم الذات مستوى المعالم، كما انبث منهجاً في صلب خطابات الثقافة العربية الإسلامية على اختلاف ميادينها واهتماماتها