صالح مهدي محمد
اللوحة: الفنان السوري نافع حقي
استوقفتني هاتان القصيدتان طويلًا، لا بوصفهما نصّين يُقرآن ثم يُطويان، بل كحالتين تتجدّدان مع كل عودة. كنت أقرأ، ثم أعود فأقرأ، دون أن يتسلّل الملل. شيئًا فشيئًا، اخذ احساس الشاعر بالأشياء المحيطة يتبدّل، فصارت التفاصيل صورًا تتقافز أمام المخيّلة، لا بفعل الوصف المباشر، بل نتيجة ارتجاج داخلي أحدثته اللغة وهي تعيد رسم الحواس.
أمام هذا الأثر، لم يكن السؤال عن جمال النصّ كافيًا، بل انفتح سؤال آخر أكثر إلحاحًا: بأيّ كيمياء كُتبت هاتان القصيدتان؟ هل صيغتا بأنامل من غيم، تتكاثف ثم تتقافز صورًا وإيقاعات؟ أم أن الإحساس وحده كان هو القائد الخفي، يدفع اللغة إلى تخومها القصوى؟ أم أن ثمّة بوتقة خفيّة صُهرت فيها التجربة، حيث امتزج الوعي بالذاكرة، والجسد بالمكان، والتاريخ باللحظة العابرة؟
تبدو قصيدتا الشاعر باسم فرات وكأنهما خرجتا من عملية صهر مزدوجة: صهرٍ لغويّ يحوّل الصورة إلى طاقة حركية، وصهرٍ وجدانيّ يشحن النصّ بمزيج دقيق من العاطفة والأمل، والثقة والخوف. هذا التوتر الداخلي، الذي لا يستقر على معنى واحد ولا على إحساس نهائي، هو ما يمنح القصيدتين قابليتهما الدائمة للعودة والقراءة من جديد. فهما لا تقدّمان إجابات بقدر ما تفتحان مساحات للتأمّل، ولا تستعرضان التجربة بقدر ما تُشركان القارئ فيها، ليصبح جزءًا من ارتماس النصّ وصمته معًا.
من هنا، تنطلق هذه المقالة النقدية لا بوصفها تفكيكًا تقنيًا فحسب، بل بوصفها محاولة للولوج إلى مكنون التجربة الشعرية في هاتين القصيدتين؛ إلى ذلك الحيّز الذي تتجاور فيه الحساسية العالية مع الوعي الجمالي، وتتشابك فيه اللغة مع الذاكرة والمكان، ليولد نصّ مشحون، لا يكتفي بأن يُقرأ، بل يُعاش.
النص الأول: الصمت قنديلًا
في سنواتِ الثكناتِ
بصقتُ على الحربِ
والصمتُ حملتُه قنديلًا
شقّ الظلامَ
فعبرتُ من لهيبِ الخوفِ
بلا خسائرَ وبلا أوسمةٍ
مددتُ حبلَ النجاةِ
لأغوصَ في بئرٍ لا يصلُها الوطنُ
في قارورتي
دمعُ أمّي
بقايا ندىً ملطّخٍ بقبلاتِ وردةٍ
وأسئلةِ النهرِ للريح.
الصمت قنديلًا ليس عنوانًا يُمهّد للقصيدة بقدر ما هو مفتاحها العميق؛ إنّه بيان جماليّ يُعلن منذ البدء أن ما سيُقال لا يُقال بالصوت، وأن النور لن يأتي من صخب، بل من حملٍ داخليّ ثقيل اسمه الصمت. القصيدة تُبنى على مفارقة كبرى: الصمت، الذي يُفترض به العتمة، يتحوّل إلى قنديل، أي إلى أداة اختراق لا أداة انسحاب. ومن هذه المفارقة تنفتح طبقات النص.
منذ السطر الأول: «في سنوات الثكنات»، يدخل النص زمنًا لا يُقاس بالتقويم بل بالثقل. «سنوات» هنا ليست عددًا، بل حالة ممتدّة من العسكرة، من الإقامة القسرية في فضاء الحرب. الثكنة ليست مكانًا فحسب، بل عقلًا جماعيًا يُعاد فيه تشكيل الإنسان كأداة. الشاعر لا يصف الحرب، بل يحدّد مناخها النفسي: زمن مغلق، متكرّر، لا يفضي إلى خلاص.
ثم تأتي الجملة الصادمة: «بصقتُ على الحرب». هذا الفعل لا ينتمي إلى البلاغة الناعمة، بل إلى الجسد مباشرة. البصق إهانة، رفض فجّ، قطيعة لا لبس فيها. الشاعر لا يناقش الحرب، ولا يُنظّر لها، بل يُخرجها من فمه بوصفها شيئًا مُقرفًا. غير أن هذا الرفض لا يتحوّل إلى خطاب صاخب أو بطولة خطابية، بل يتجاور فورًا مع الصمت: «والصمت حملته قنديلًا». كأن الرفض الحقيقي ليس في الصراخ، بل في القدرة على العبور بصمتٍ مضيء.
الصمت هنا ليس عجزًا، بل استراتيجية وجود. قنديل الصمت يشقّ الظلام، لا يلغيه. الظلام حاضر، كثيف، لكنه قابل للاختراق. وبهذا ينتقل النص من موقف أخلاقي إلى تجربة عبور: «فعبرتُ من لهيب الخوف». العبور لا يتم عبر المعركة، بل عبر الداخل. «لهيب الخوف» استعارة للحرب في ذروتها النفسية، حيث الخوف هو النار الحقيقية، لا الرصاص. الشاعر ينجو «بلا خسائر وبلا أوسمة»، وهنا يبلغ النص ذروة نقده الضمني لمنطق الحرب: النجاة التي لا تمنح وسامًا هي نجاة مشبوهة في أعراف البطولة، لكنها في منطق القصيدة هي النجاة الوحيدة الصادقة. فالأوسمة قرائن الخضوع لسردية القتل، أما الخروج بلا علامة فهو استعادة للذات.
في المقطع التالي يتحوّل مسار القصيدة من العبور إلى الغوص: «مددتُ حبلَ النجاة / لأغوصَ في بئرٍ لا يصلها الوطن». المفارقة تتضاعف؛ حبل النجاة لا يُستخدم للصعود بل للنزول. البئر هنا ليست مكانًا للضياع، بل ملاذًا من وطنٍ تحوّل إلى جهاز حرب. الوطن، في هذه الرؤية، لم يعد قيمة جامعة، بل خطابًا لا يصل إلى العمق الإنساني. البئر تمثّل الداخل المنسي، الطبقة التي لم تطلها الشعارات.
وتصل القصيدة إلى أكثر صورها حميمية وكثافة: «في قارورتي / دمعُ أمّي». القارورة وعاء هشّ، زجاجي، قابل للكسر، كأن الشاعر يحمل ذاكرته بأقصى درجات الهشاشة. دموع الأم ليست مجرّد حزن شخصي، بل مخزون أخلاقي مضاد للحرب؛ الدليل الوحيد الذي لم تُفسده الشعارات. ثم تتكاثف الصورة أكثر: «بقايا ندىً ملطّخ بقبلات وردة»، حيث يمتزج الطهر (الندى) بالأثر الإنساني (القبلة) بالجمال الطبيعي (الوردة). هذه الثلاثية تقف نقيضًا كاملًا للثكنة، للوسام، للرصاصة.
أما الخاتمة: «وأسئلة النهر للريح»، فهي تعليق مفتوح على العبث الوجودي. الأسئلة لا تُوجَّه إلى سلطة، ولا إلى إله، بل إلى الريح؛ أي إلى ما لا يملك جوابًا. وهنا يبلغ النص وعيه الفلسفي: الحرب لا تُنتج أجوبة، بل تُراكم أسئلة تتقاذفها القوى العمياء.
القصيدة، في مكنونها العميق، لا تكتب ضد الحرب بوصفها حدثًا، بل ضد منطقها: منطق الضجيج، والبطولة، والاصطفاف، والوسم. وهي تفعل ذلك دون خطابية، عبر بناء عالم رمزي يقيم بدائله الخاصة: الصمت بدل الصراخ، القنديل بدل الراية، البئر بدل الساحة، دموع الأم بدل النشيد. إننا أمام نصّ ينجو من الحرب كما ينجو من قصيدتها الجاهزة، ويعيد للغة دورها الأول: أن تكون مأوى، لا سلاحًا.
النص الثاني: ارتماس
في القاهرة
تتيهُ بك المتاحفُ
التاريخُ على صدورِ النساء
مجلجلًا بالزغاريدِ
وارتجاجِ الأنوثةِ
يمشي.
خطواتُ ملوكٍ عبروا الماضي
وفرسانٌ طعنوا خيلاءهم
بقبلٍ ووداع
صرعَ الغزاةُ أوهامَهم
واغتسلوا بالنيل
معلنين:
«رقّصني يا جدع».
ارتماس ليس عنوانًا مكانيًا بقدر ما هو فعل وجودي؛ فعل دخول كامل في طبقات المدينة، في ماء التاريخ والذاكرة والجسد معًا. منذ السطر الأول، لا تقف القصيدة عند القاهرة كجغرافيا، بل تجعلها وسيطًا للتيه: «في القاهرة / تتيه بك المتاحف». المتحف هنا لا يؤدّي وظيفة العرض أو الحفظ، بل يتحوّل إلى متاهة، إلى فضاء يبتلع الزائر ويعيد تشكيل وعيه. التيه ليس فقدان طريق، بل غرق في فائض المعنى، في تراكم الأزمنة التي لا تمنحك مخرجًا واضحًا.
يتقدّم النص من المكان إلى الجسد، في واحدة من أكثر صوره كثافة وإثارة للتأويل: «التاريخ على صدور النساء». التاريخ لا يُحمل في الكتب ولا يُنقش على الجدران، بل يستقر فوق الجسد الأنثوي، بوصفه حاضن الذاكرة والولادة والاستمرار. هذه الإزاحة تقلب مركز السلطة المعرفية: التاريخ لا يتكلّم بلسان الملوك وحدهم، بل ينبض فوق صدور النساء، حيث الحياة والخصوبة، وحيث الألم أيضًا. وكونه «مجلجلًا بالزغاريد وارتجاج الأنوثة» يمنح المشهد طابعًا احتفاليًا ملتبسًا؛ فالزغاريد هنا ليست فرحًا خالصًا، بل صدى طويل لانتصارات وجنازات وأعراس ووداعات متداخلة. الارتجاج يوحي بالحركة وعدم الاستقرار، كأن الأنوثة نفسها تهتزّ تحت ثقل التاريخ المحمول عليها.
الفعل «يمشي» يأتي مفردًا، معزولًا، ليؤكّد أن هذا التاريخ المتجسّد ليس ساكنًا ولا معروضًا خلف زجاج، بل كائن حيّ يتجوّل في المدينة. هنا تنكسر صورة المتحف الجامدة، ويصبح التاريخ حركة مستمرة في الشارع، في الجسد، في الذاكرة اليومية.
ثم تنتقل القصيدة إلى استحضار السلالة السلطوية: «خطوات ملوك عبروا الماضي». اللافت أن الملوك لا يعبرون الحاضر، بل يعبرون الماضي نفسه، كأنهم صاروا آثارًا لذواتهم. خطواتهم تُسمع، لكنهم بلا وجوه ولا أسماء، مجرّد إيقاع سلطوي تآكل مع الزمن. يليهم «فرسان طعنوا خيلاءهم بقبل ووداع»، وهي صورة مفصلية؛ الفارس، رمز البطولة والقوة، يطعن خيلاءه لا بسيف، بل بقبلة ووداع. هنا تنقلب البطولة إلى فعل تفكيك ذاتي، كأن النص يقول إن القوة الحقيقية ليست في الاستمرار بالادّعاء، بل في القدرة على توديعه.
في المقطع التالي يبلغ النص ذروته الرمزية: «صرع الغزاة أوهامهم / واغتسلوا بالنيل». الغزاة لا يُهزمون من الخارج، بل يسقطون حين تنهار أوهامهم. الاغتسال بالنيل ليس طقس تطهير بسيطًا، بل خضوع للمدينة، واعتراف بسلطة المكان الأعمق من السلاح. النيل هنا ليس نهرًا فحسب، بل ذاكرة سائلة، قادرة على امتصاص الغزاة وإعادة تشكيلهم أو محوهم. إنّه شاهد لا ينحاز، لكنه لا ينسى.
أما الخاتمة: «معلنين: رقّصني يا جدع»، فهي مفاجأة لغوية وثقافية تقطع مع الفخامة السابقة. بعد الملوك والفرسان والغزاة، ينتهي النص بنداء شعبي، شفهي، يومي. هذا الانتقال الحاد ليس عبثيًا، بل إعلان انتصار الصوت الشعبي على الخطاب الإمبراطوري. العبارة تحمل روح الجسد، والرقص، والحياة المباشرة، كأن التاريخ، بعد كل هذا العبور والاغتسال، لا يجد خلاصه إلا في الحركة، في الرقص، في الانفلات من الوقار الزائف.
في مكنونها العميق، تكشف قصيدة «ارتماس» عن رؤية للقاهرة بوصفها كائنًا يبتلع الغزاة، ويعيد تدوير الملوك، ويُسكن التاريخ في الجسد لا في الحجر. إنها قصيدة لا تحتفي بالماضي ولا تدينه، بل تُذيبه في الحاضر: في الأنوثة، في النهر، في اللغة الشعبية. الارتماس هنا ليس غرقًا مميتًا، بل انخراطًا كاملًا في مدينة لا تُقرأ من الأعلى، بل تُعاش من الداخل، حيث لا يبقى من السلطة سوى صداها، ومن التاريخ سوى ارتجافه المستمر.