أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة
اللوحة: الفنان الانجليزى فريدريك جودال
لطالما دُرِست الحملة الفرنسية على مصر، وكافة الحملات الاستعمارية، وكذلك فترات الاستعمار من منظور سياسي عسكري، دون التطرق للعلاقات الإنسانية والاجتماعية التي جرت وقائعها بالتوازي مع التطورات السياسية البارزة.
ميّز كل فترة استعمارية (ومنها فترة الاستعمار الفرنسي لمصر)، وجود نوعين من البشر في حيز جغرافي محدد. وبذلك شكلت الفترات الاستعمارية أرضية يلتقي عندها المحتل بضحايا الاحتلال. ولعل هذا التفاعل الذي يحتمه منطق الحياة يقدم الكثير من خلال تسليط الضوء على هذه الأحداث والوقوف على بعض من تفاصيل الحياة القائمة.
تقوم هذه الدراسة على تقديم قراءة تحليلية ليوميات سجلها ضابط فرنسي يدعى جوزيف ماري مواريه، وتحديدا حول ما دونه بشأن علاقة خاصة كونها مع أميرة مملوكية تدعى زليمه، كانت محظية أحد البكوات المماليك الذين لاقوا مصرعهم أمام الفرنسيين في معركة إمبابة (الأهرام) التي على أثرها يدخل بونابرت بجيشه مدينة القاهرة.
تنوعت خلال الفترة الاستعمارية القصيرة (1798 – 1801)، في ظل الاحتلال الفرنسي لمصر، مستويات العلاقة في أبعادها الإنسانية المتباينة بين الجيش الفرنسي والمجتمع المصري بجميع طوائفه: فخلافاً للعلاقات ذات الطابع المادي التبادلي التي فرضتها مقتضيات الحياة والتعاون المعيشي اليومي، تكونت علاقات إنسانية على أكثر من مستوى، يمكن تحديد بعض أشكالها: الأول منها، أخذ شكل علاقات “صداقة خاصة”، وذلك بصرف النظر عن دافعيتها، إن في سياق التعارف والتواصل العلمي أو تطلعاً إلى الحظوة والنفوذ أو حتى تجنباً لسيئات الاحتلال. وبرزت هذه الظاهرة بشكل واضح في صفوف علماء وشيوخ الأزهر: فالشيخ محمد المهدي، على سبيل المثال، ربطته بالعالم الفرنسي جان جوزيف مارسيل (المستشرق والمترجم ومدير المطبعة في فترة الحملة) علاقة صداقة خاصة خارج سياق اللحظة المشحونة بالاحتلال؛ حيث قارب بينهما اهتمامهما المشترك بالأدب العربي، وعبر أمسيات ثقافية طويلة ومتكررة، طيلة سنوات الحملة الثلاث، تبادلا الكثير من الحوارات حول التراث المعرفي العربي ومصادره الأدبية والتي كان من بينها مناقشات مهمة حول حكايات “ألف ليلة وليلة” والتي قادت إلى اكتشاف جان مارسيل لمؤلف أدبي كبير عن الحكايات من تأليف الشيخ المهدي نفسه، كتبه على غرار قصص ألف ليلة وليلة لكن من منظور واقعي. على أن اللافت للنظر هنا أن مثل هذه الصداقة لم تنقطع برحيل الفرنسيين؛ فوفقاً لما ذكره جان مارسيل كان بينهما تواصل بالرسائل والجوابات لسنوات طويلة بعد انسحاب الجيش وعودته لفرنسا، وأنه “ظل يحتفظ بكل عناية بالأصول المكتوبة بيد الشيخ المهدي”؛ فكانت العلاقة ممتدة على المستوى الشخصي إلى أن توفي الشيخ المهدى في عام 1815.
وفى خط متواز مع الشيخ محمد المهدى، نجد اندماجاً قوياً من شيوخ آخرين ، كان منهم الشيخ حسن العطار، الذي درسه بعناية بيتر جران، وبين أنه بعد عودته من الصعيد، الذي كان قد فر إليه وهو في حالة من الخوف، لحظة اجتياح بونابرت للبلاد، حيث مكث لمدة طويلة (18 شهرا)، اكتشف بعد عودته للقاهرة أن الفرنسيين ” مسالمون ” أكثر من كونهم ” قساة “، واشتد اعجاب الشيخ حسن العطار بهم وبعلومهم الطبيعية واهتمامهم بالفلسفة، وهو ما كان يتطلع إليه، ما جعله، والقول لبيتر جران” ينطلق في التعبير الحر عن عواطفه شعراً كما واصل سعيه العفوي من أجل أشكال جديدة للحياة الفكرية”. وبالجملة شعر الشيخ حسن العطار خلال تلك الفترة الوجيزة ” بذاته وبنزاهته”. ومن ثم أفرط في تكوين علاقات إنسانية مع الفرنسيين، وحين فشلت الحملة وانسحبت، تعرض العطار للوقوع في “الشبهة” على حد تعبير بيتر جران، ولذلك قرر – ضمن أسباب أخرى- الفرار من مواجهة محتملة مع المجتمع، مواجهة سيكون فيها تعاونه مع المحتل موضع مساءلة وربما محاسبة، فقرر الهروب إلى تركيا. ولم يعد إلى مصر إلا في عام 1815، ومصر تحت حكم محمد على باشا، الذي استشرف معه مرحلة جديدة من التطور الثقافي.
هذه الأمثلة ليست نماذج استثنائية، وإنما تقاربها نماذج أخرى تجاوزت ظرفية الحدث الاستعماري، وأعادت اكتشاف نفسها وتطلعاتها الأصيلة نحو الانفتاح على الآخر ثقافيا وفكريا واجتماعياً. ولا تزال هذه الظاهرة في حاجة إلى دراسات تحلل بدرجة عميقة سلوكيات الأفراد وأفكارهم ومواقفهم في سياق مرحلة التحول التي مرت بها مصر عند منعطف القرن التاسع عشر.
سنبحث في الحلقة القادمة المستوى الثاني من أشكال العلاقات الإنسانية التي أفرزتها الفترة الاستعمارية وهي “العلاقات الحميمية” (الشرعية)، وحالات الزواج بين فرنسيين ومصريين أو بين فرنسيين وغير مصريين.