ماذا فعلت بنا يامارك.. أنساق شاعرية في تفصيلات الحياة اليومية

ماذا فعلت بنا يامارك.. أنساق شاعرية في تفصيلات الحياة اليومية

سمير الفيل 

اللوحة: الفنان الإنكليزي إدوارد وادزورث

د. عيد صالح في ديوانه الأحدث ” ماذا فعلت بنا يا مارك؟!” يعيد تنضيد العالم من جديد ، وسط فوضى عارمة احتلت المتن ، وزحفت بضراوة لتستحوذ على الهامش . يبسط الشاعر تجربته بشيء من القلق فهو في حالة تأمل الأشياء ، مدمجا نظرته للكون بما يقبض عليه من معارف وحقائق ومشاعر إنسانية ضمنها هذا الديوان الذي أهداه إلى أحفاده الصغار :” محمد وسما وسيف “. 

يلمع الوميض من بعيد فيضيء الفضاءات ، ويمعن في استقصاء أسباب الحزن الذي يحوطه ، ويعلن عن خيبة أمله ، وهو يتأمل مروق البرق والسحب ، وظهور البطولات الزائفة التي يراها من حوله خاصة في زمن الفضاء الافتراضي وصعود نجم “مارك زوكربيرغ” الذي جعل “الفيس بوك” مجالا لعلاقات جديدة لا تخضع لقانون الواقع، ولا لإحباطاته المتوالية التي لا تقف عند حد .

فيض الدلالات

المجتمع يعيش في وسط مراوغ ، يجمع الواقع بضغوطه المختلفة بالميتافيزيقا، ثم تنهض التكنولوجيا بدور إضافي لتتشابك العلاقات بشكل حي وفعال. بيد أن شاعرنا يتجه كي يبحث عن ذاته الضائعة وسط ركام التناقضات. وهنا تبدو الأفكار مختلطة بتيار الذكريات لتتشكل قصائد نثرية، تعبر الهوة الواقعة بين الواقع والحلم: 

أقعي على رصيف خيال محبط 

لقصيدة ولدت مشوهة 

وأفكار من سلة ذاكرة مثقوبة 

وصور ممزقة لفتيات أحلام 

وقصائد رومانسية 

ونساء عبرنني كشيء 

ورفاق طيروني برذاذ ضحكاتهم الخشنة 

في هواء مسموم

يمضي الشاعر في هذا الاتجاه ، متوجها بكليته لفضح تلك التناقضات التي يبنى عليها العالم الحديث ، وهو ـ أي الشاعر ـ يمتلك المعرفة ليقتنص الدلالات ، وليزاوج الأضداد ، بشكل يبعث على الاحتراس خوفا من السقوط في شباك ” الأنا” وهي منهزمة ، متشظية ، منقسمة ، فيما يعترف بكونه ابن تلك المرحلة التي يرفضها غير أنه واقع في قبضتها: 

لا أتحدث عن الافتراس 

ولا شهوتي البطن وما بين الفخذين 

ولا أحب شعوذات الأطباء النفسيين 

ولا مبررات القصف والإبادة 

بابتعاث الهولوكست 

وهيروشيما ونجزاكي 

وإحداثيات الاقتحام المثير 

لبرجي سبتمبر الحزين

يتوغل النص في دهاليز التاريخ لا ليستوعبه بل ليقيم معه علاقة رفض أو جدل أو تمرد باعتباره كاشفا عن هزائم الذات عبر وقائع محددة حيث يمكن اختراق الجغرافيا لتتمكن القصيدة من فك شفرة العالم. وهو ما يقتضي استبصارا جماليا يضع اللغة في مقابل نوبات الصمت والكلام. 

يتفتح وعي الشاعر على تلك الثنائيات الضدية التي توفر له ملاذا آمنا ليسكن المتن مع إزاحات مكانية تعيد له القدرة على النفاذ لجوهر الأشياء التي هي في حالة سيولة تامة:

لا أخشى الغد 

ولا يعنيني اليوم 

لا أحب استعراض عضلات الفكين 

في الضغط على الحروف 

ولا عقد سحنتي 

في فك شفرة العالم 

الذي وكزني صباح اليوم 

حتى أفرغ ما بجوفي 

وأنا أجر جسدي 

كحصان سقط في عرض الشارع 

وخوار الموت المنقض 

يطفح من شدقيه

ضراوة الزمن

يدون الشاعر المشاهد بكل تفصيلاتها ، ويؤول سيرة المكان، ويحاول أن يموضع الزمن في ملفات تخص خبرته غير أن ذلك الزمن مراوغ ، ويفرض ضراوته حين يتصل الأمر بالتراجيديا الإنسانية التي هي الهم الأول لعيد صالح ؛ فهو يدور في فضاء الذات معترضا ـ بكل جدية ـ على ما يحدث ، ف” مارك” لم يتمكن من عقد هدنة مع الزمن بنسبيته، والواقع بعيد عن التأطير ، لذلك يتأمل الفراغ بتمهل ، ويتسلح بمعارف لا يلاحظها غيره من القلة التي سمت بروحها لتتمكن من الإفلات من المصير المحتوم، وهو ما يعني أكبر قدر من التعاسة:

كعابر سبيل

يتأمل الفراغ

ويحشو غليونه العتيق 

على مقهى خارج الزمن 

الزمن الذي تركه بناصية ما 

يحدق في أسطر صحيفة ممسوحة 

ويتعجل ماسح الأحذية اللزج 

بعد أن نظر في ساعته

وتذكر أنه على موعد مع لاشيء

يتوقف الشاعر دائما عند حضور الأصدقاء ، يراهم يعبرون خارج سطوة الزمن ، ولديهم رصيد هائل من المحبة ، لكنه يمزج الغواية بشعور متزايد بالعجز ، وربما كانت الصورة الأكثر دهشة تفيد أن العتمة والضوء عنصران يتبادلان التأثير للبحث عن يقين أو ما يعتقد الصوت الصارخ في البرية أنه على صواب:

الذين يضعونني على أعينهم

التي تضيق وتتسع حدقاتها 

لا بفعل العتمة والضوء 

ولا للقاء عارم بعد غياب وشوق 

ولكن لرأيي فيما يعتقدون أنه الصواب 

لكم وحشة حقيقية أيها الأوغاد

لا تهجموا على الموائد هكذا 

ولا تعاكسوا النادلة بهذه الفجاجة

هي حالة من حالات امتلاك المعنى ، وربما كان مبعث هذا القلق الذي نشعر به ، ما يدركه الكاتب من عثرات يعيشها في إطار مجتمعي يضفي على الأشياء قدرا من الزيف والبهتان . فالشاعر منهزم من داخله لأنه لم يتمكن من صنع جسر حقيقي يصله بالحقيقة التي تظهر وتختفي بلا مبررات مقنعة . إنه يعيش وهما كبيرا والتاريخ ذاته مخاتل . أتصور أن عيد صالح كان يهتف من قلبه كي لا تسجنه المعاني المراوغة ولا الصور المدنسة:

عشنا في أوهام كثيرة 

والتاريخ لا يكرر نفسه 

والأوغاد الذين عادوا أكثر شراسة 

تجاوزتهم الأحداث 

وصاروا كمهرج السيرك العجوز 

والحداثيون في استمناء ذواتهم 

حد التشيؤ والاضمحلال 

لن تحميهم نرجسيتهم المتمترسة 

خلف مخالبهم البشعة

الواقع والأسطورة

يشكل عيد صالح أسطورته من قلب الواقع المعيش ، ولا يتردد في أن يقبض على اللحظة في صيرورتها ، متوجها نحو اقتحام الذاكرة المدججة باليأس والإحباط ، ويبلغ درجة عالية من الاستبصار حين يقوم بعملية استحضار الجواهر المطمورة ، وتدوين نثرية الحياة ، مع تدشين الفواجع ، وهيكلة المعاني المقبورة ، فهو بذلك المسعى يعمل على أسطرة اللغة بأن يحملها الكثير من قيم دلالية تأخذ في التراكم على محك واقعي بحت . انظر إليه يتأمل حالة انكساره الفريدة :

أن ينصرف عنك الكثير من أصدقائك 

كما تفقد الزائد من وزنك 

كي تتخلص من ترهلك 

ونسب الشحوم الزائدة 

التي تسد شرايين الحياة

الحياة التي هي أغلى 

من أن تضيع في دهانات وأصباغ

ثمة رفض لآليات التجميل، نشعر بذلك النسق الذي يقوده إلى الحزن، فهو يتحرك بعصبية زائدة، ومن ثم يصبح تأويله للأحداث لا نهائيا ، بل يأخذ دورات صعود وهبوط، والذات التي حسبها طليقة تبدو مقيدة بتاريخها وأرثها الثقيل ورمزيتها التي لا تغيب عنها مطلقا.

إن تأمل التجربة من بعد يختلف عن تأملها فيما الذات متورطة في الحدث ، يلتقط الشاعر اللحظة المتفجرة فيمنحها خلودا ويصعد درجة نحو الموت القابع في نهاية القبو المعتم. ذلك الخيط الرفيع الذي يمتد باتجاه الآفاق البعيدة . للشاعر قدرة على مزج الألوان المتباعدة وهو يحقق نوعا من التعبير الذي ينقض الزمن بدائريته من أجل أن يصبغ أسطورته بلون غير مرئي للكافة:

أجدد حزني 

في تلقائية وانتشاء 

كقهوة الصباح المنعشة 

وقلبي الذي لا يزال يدق بعنف 

عندما يمر طيفها أمام عيني الكليلتين

ونحن نطحن أحلامنا 

في غلو وعناد 

كمن يقتلع كبده

ويلقي به لأسد جائع

في حديقة إنسان ما قبل التاريخ

يحاول الشاعر ان يستخرج من الأسطورة معنى للوجود، لكنه يقع في خطيئة كونه متوحدا مع الوقائع في تشكلاتها ، فهو ابن الأرض التي لا تمنحه سوى المزيد من الوحدة والشعور بالمأساة. هو نموذج فريد لحالة الانفلات من سطوة الأسطورة التي شكلت أفقه الجمالي . تكون الصرخة من تلك الناحية التي طالما أهملت على امتداد القرون:

أريد أن أتصالح مع نفسي 

نفسي التي تركتها بالخارج 

وأغلقت الباب دونها 

وأنا أصرخ في وجهها المبتئس 

لا أريدك 

فقد دفعت بي للهلاك 

وأنت تقودينني للهاوية 

وأنت ترقصين مع الذئاب 

كلاعبي السيرك المحترفين 

وأنا أكظم غيظي وابتسم

خطاب الفجيعة

يدور خطاب الفجيعة حول وعي الشاعر بما استحدث في حياتنا من وقائع تجسد الخلل في العلاقات الإنسانية، وانتشار الحروب، وتفشي المجاعات، في زمن صار فيه الحب أشبه بالمستحيل . تلك الأنساق تشتبك بوعي حاد يتلمس الظروف التاريخية التي جعلت الحياة فخ يقع في البشر كافة ، دون اي انتظار للخروج من المأزق . صلة لافتة بين الأقدار الدامية وبين الأحلام القديمة التي تعرضت للشحوب. فهل هو الشكل النهائي للحياة عبر ازمنة ساقطة أو مشوهة ؟ ذلك ما يشكله الشاعر:

أحاديث لا تنتهي 

من الصدفة التي تخط أقدارنا 

وعما يفعله المخرجون وكتاب الدراما بنا 

وهم يلعبون بمخيلتنا 

ويرشقوننا بالصدف 

التي نقف لها على أعتاب أرواحنا

لعله الموقف الذي يعبر عن هزائم ونكوص وارتداد لزمنة غابرة ، وقد يبدو الحب هو المهرب الوحيد حيث يمكن لملمة الأشياء التي تمنح الروح السكينة، لكن يبدو أن هذا محض وهم. 

نكتشف أن الحب مستحيل ، وجوهر الحياة قائم على سلسلة لا تنفصم من السقطات التراجيديا . يلتقط عيد صالح الإشارات والذبذبات القادمة من عالم محيط يمثل التجربة الروحية في تجلياتها ، وسرعان ما يسقط الزمن وتحبط التجربة فالفراغ يشمل كل شيء حتى الذات في دورانها المثير ، بحثا عن مهرب. سيشمل إيقاع العبارات شكلا من أشكال إحياء اللغة البائدة ، والجنون يخترق النواة الصلبة كي ينعكس على كل شيء من حولنا . ما بال المرارة تملأ أفواهنا ؟:

ما عدت المحلق والمنطلق

وأنا بالكاد أتوكأ على عصاي 

عصاي التي تئن من وعثاء الطريق 

والعربات المندفعة في جنون 

والعشاق الذين يعبرونني 

كحائط او إشارة 

أنا الذي كنت أوقف الريح بقبضتي

وأشحذ الفضاء

العبث يشمل كل شيء وقد يكون هو العنوان الأكثر ملائمة بعد انكشاف خديعة “مارك زوكربيرغ”، المبرمج الأمريكي الذي أدخل الشاعر فضاء لا ينتهي مشحون بالمغامرة والفراغ والإلهاء في صرة واحدة. 

يعيد عيد صالح الألق للأشياء فيبعثرها ، ويستغرق طول الوقت في إعادة ترتيبها ، فيتشكك في التاريخ، ولا تخدعه النوايا الحسنة ، ويبدو مطاردا بالوقت والذكريات و”الحواديت” القديمة التي تتجدد على شكل خرافات مقدسة. انظر إليه وهو يعترف باللامعنى:

ربما هذا الصباح

وأنت تغز السير للحاق باللاشيء 

لا شيء في انتظارك 

رغم اندفاعك الحماسي 

في طريق بلا عودة 

ونهار شرس 

وبشر كالحين

مواعيد قاتلة

من المهم أن نتذكر ونحن نتصفح قصائد الديوان أن الشاعر يبحث طول الوقت عن معنى الحياة، قيمة الوقت، ثقل التراث، فيعيد تعرية ذاته لأنه دخل طرفا في المعركة الدائرة بين العقل من ناحية وبين المخيلة المؤرقة بالأسئلة من ناحية ثانية. يطرح هذا التماهي بين الواقع المتجسد في وقائع تاريخية محددة وبين أساطير في طور التشكل مجالا رحبا لفهم أكثر إدراكا للحياة. لعل هذا هو المعنى الكامن في الوقائع الملتبسة، والتي تأخذ قوتها من بساطتها وعمقها، في آن: 

كل شيء لا يجيء في موعده

حتى الموت الذي أخلفك في الحادثة المروعة 

كل ركاب العربة ماتوا 

وكأنك في حلم

تسللت من بين الجثث 

كان ثمة من يفتح الباب ويجرك دون خدش

يصب عيد صالح اللعنة على ( مارك) فقد فكك المنظومة القديمة التي جعلته فريسة للكتب ، فلم تعد اللغة تبهره، ولا الأساليب البلاغية تستوقفه، فهو في محنة حقيقية لأنه صار رقما مطموسا، لا نفع من ورائه . كل النصوص صارت منقوصة وفاقدة حرارة التجربة الحقيقية وتلك هي الأزمة في عنفوانها:

هذا اللعين مارك 

نزع الفرادة والخصوصية

حتى الجينات تمازجت

لتنتج مسخا 

أراني في كثير من الوجوه والنصوص 

حتى ذلك القروي الذي كان يقف بالساعات 

ليحظى بنظرة خاطفة 

والذي طارد في أحلامه مارلين مونرو 

وظلت صورة شيري ماكلين بالأبيض والأسود

مع صورة هيمنجواي وجون كنيدي 

في حافظته حتى بليت

إنه الإنسان المسخ في زمن العولمة ، يشعر الشاعر بمأساته فلا يمكنه أن يمد يده لإنقاذه لكونه قد توحد مع قاتله ، في متلازمة غريبة. وإذا كان الديوان كله أشبه ما يكون بمرثية طويلة تشمل السرير والحجرة والشارع والميدان فلم تسلم سوى ذاكرته ، وهي التي تمده بمزيد من الصور. 

لا ينسى عيد صالح أنه طبيب فيحنو على المرضي ، ويذهب ليودع الموتى ، وفي قلبه هذا الشجن الأبدي الذي يسري في ديوانه ، والذي جعله يقف عند حافة البكاء كي يتلو شيئا من اعترافاته الأخيرة :

كأنني أودع نفسي 

وأستغرق في البكاء 

حتى أهل الموتى ينسون موتاهم 

ويعزونني في موتي 

أنا الميت الحي 

أصادق المقابر والنعوش 

وأعرف النادبات والثكالى 

ومتعهدي الدفن

نصوص طازجة، وقصائد شفافة، مترعة بالشوق، تحمل فتنة الحكي، وبوح المحبين المنهزمين، وحدس الصالحين المؤرقين بالأسئلة التي لا إجابة لها.


قصيدة «مارك» للشاعر عيد صالح

رأيان على “ماذا فعلت بنا يامارك.. أنساق شاعرية في تفصيلات الحياة اليومية

اترك تعليقًا على غير معروف إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.