في شوارع متاهتي

في شوارع متاهتي

أناييس نن

ترجمة محمود منقذ الهاشمي

اللوحة: الفنانة السعودية ليلى مال الله

بعد وصولي إلى «كديز» (ميناء في إسبانيا) وأنا في طريقي إلى أمريكا رأيت أشجار النخيل الهزيلة نفسها التي كنت أراقبها باهتمام حين كنت في الحادية عشرة 

من العمر. رأيت الكاتدرائية التي وصفتها بدقة في يومياتي، ورأيت المدينة التي لا نخرج فها النساء كثيرا؛ وهذه المدينة لم أرغب في العيش فيها لأنني أحببت الاستقلال. وحين وصلت إلى كديز رأيت أشجار النخيل، والكاتدرائية، ولكنني لم أر الطفلة التي كنتُها. 

كانت آخر آثار الماضي ضائعة في مدينة فاس القديمة، التي كانت شديدة الشبه بحياتي، بشوارعها المعرجة، وصمتها، وسريتها، ومتاهاتها، ووجوهها المغطاة. 

وفي مدينة فاس أخذت أدرك أن الشيطان الصغير الذي افترسني عشرين سنة، الشيطان الصغير الذي حاربته عشرين سنة، قد كف عن التهامي. 

كنت أسير باطمئنان في شوارع فاس، يستغرقني عالم خارج ذاتي، ماض لم يعد ماضيّ، مرض يستطيع المرء أن يلمسه ويحدده ويراه، مرض ملموس، الجذام والسفلس. 

سرت مع العرب، وأنشدت معهم وصليت لله الذي أَذِن بالقبول. 

وشاركتهم التسليم. 

ومعهم تضرعت في سكينة، وأضعت نفسي في شوارع لا مخارج لها – شوارع رغائبي؛ ونسيت إلى أين كنت أمضي، فاستندت إلى الجدران الملونة بالوحل لأصغي إلى النحاسين يطرقون الصينيات النحاسية، وأرقب الصباغين يغمسون الحرير في الدلاء التي لها ألوان قوس قزح. 

في شوارع متاهتي سرت مطمئنة حتى النهاية، وكانت القوة والضعف قد التحما في أعين العرب بالحلم. والتخبط الذي سرت به كالنفاية على درجات الباب والذباب الذي يتغذى بها. وكانت الأماكن التي لم أصل إليها منسية لأن العربي سار إلى الأبد على حماره أو قدميه الحافيتين بين شوارع فاس كما سأسير إلى الأبد بين جدران يومياتي وقلاعها. 

وكان الإخفاق نقوشا على الجدران، نصف ممحية بفعل الزمن، ومع العرب تركت الرماد يتساقط، والجسد القديم يموت، والنقوش تتفتت. وتركت أشجار السرو وحيدة تراقب الموتى وهم يتساقطون. 

تركت الجنون مقيدا بالسلاسل كما يقيد المجانين. سرت معهم إلى المقبرة، لا لأبكي، بل لأحمل السجاد الملون واقفاص الطيور لعيد الكلام مع الأصدقاء – فلا يهم الموت كثيرا، أو السقم، أو الغد. 

والعرب يحلمون، ويسجدون، ويستسلمون للنوم، وينشدون، ويتوسلون، ويصلون، وما من صيحة تمرد؛ والحراس الليليون ينامون على درجات الأبواب بالبرنس المتسخ؛ وصغار الحمير تنزف الدم من سوء المعاملة. 

الألم لا شيء، الألم لا شيء هنا، في الوحل والجوع، كل شيء حالم. والحمار الصغير – يومياتي التي دفنها الماضي – يسير بخطوات مضطربة صغيرة إلى السوق.

رأيان على “في شوارع متاهتي

  1. واحة جميله امتداد للحلم والراحة ضد المتعود عليه في يوميات الروتين .. شكرا لمنحنا مساحة واحة لنحلم .. نحن نحتاج ان نحلم .. حتى وان كان … مؤلما

    إعجاب

اترك تعليقًا على حانة الشعراء إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.