الغبطة محض فكرة.. إيليا أبو ماضي وفلسفته في الحياة

الغبطة محض فكرة.. إيليا أبو ماضي وفلسفته في الحياة

كندة العمروسي

اللوحة: الفنان الأميريكي سانفورد روبنسون جيفورد

يعد الشاعر إيليا أبو ماضي من أهم شعراء المهجر الذين برزوا في أوائل القرن العشرين، فقد ولد في 15 مايو 1890م، ونشأ في عائلة بسيطة الحال، ولما اشتد به الفقر في لبنان، رحل إلى مصر عام 1902 بهدف التجارة مع عمه الذي كان يمتهن تجارة التبغ، وهناك التقى بأنطون الجميل، الذي أنشأ مع أمين تقي الدين مجلة “الزهور”، فاُعجب بذكائه إعجاباً شديداً، ودعاه إلى الكتابة بالمجلة.

جمع إيليا بواكير شعره في ديوان “تذكار الماضي” الذي صدر عن المطبعة المصرية في عام 1911م، وكان أبو ماضي إذ ذاك يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاما.

نظم إيليا الشعر في الموضوعات الوطنية والسياسية، مما أثار السلطات عليه؛ فاضطر للهجرة إلى الولايات المتحدة الامريكية عام 1912م، وشارك في تأسيس الرابطة القلمية مع جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة.

وفي عام 1929م، أصدر مجلة “السمير”، التي تعد مصدرًا هاما لأدب المهجر وخاصة لأدب إيليا أبي ماضي، حيث نشر فيها معظم أدباء المهجر كثيراً من إنتاجهم الأدبي شعراً ونثراً. واستمرت في الصدور حتى وفاة الشاعر عام 1957م.

اشتهر إيليا أبو ماضي بفلسفته الإنسانية التي تطغى عليها نزعة التفاؤل وحب الحياة، والحنين إلى الوطن، ويغلب الاتجاه الإنساني على سائر أشعاره، ولعل من أبرز قصائده وأجملها، قصيدة “الغبطة فكرة”.

تمتزج المشاعر الإنسانية للشاعر بفلسفته في الكون والنفس البشرية، فيدرك جمال الحياة ومافيها من سعادة، ويرى أن كثيراً من الناس يعيشون في تعاسة وشقاء؛ لأنهم لا يرون من الحياة إلا الجوانب المعتمة، ويتركون أطياف اليأس تأكل أرواحهم، وتسلب منهم البهجة، فيقضون حياتهم في أوهام تدعو للأسى والحسرة، مما أثار حفيظته ودهشته من كآبة الناس، وبعدهم عن التفاؤل والفرح حتى في العيد، وهو مبعث البهجة والأفراح، فيقول:

أقبلَ العيدُ، ولكنْ ليسَ في الناسِ المسرَّهْ

لا أَرى إلاَّ وُجُوهاً كالحاتٍ مُكْفَهِرَّهْ

ليسَ للقومِ حديثٌ غير شكوى مستمرَّهْ

قد تساوى عندهُمْ لليأسِ نفعٌ ومضرَّهْ

لا تَسَلْ ماذا عراهُمْ كلُّهم يجهل ُ أمرَهْ

حائرٌ كالطائرِ الخائفِ قد ضَيَّعَ وكرَهْ

فوقَهُ البازِيُّ، والأشْرَاكُ في نجدٍ وحُفْرَهْ

فقد جاء العيد بأفراحه، لكن الناس لم يفرحوا به، وكلما تلفتَّ حولك لا تجد إلا وجوها خيم الحزن عليها، وسيطر اليأس والعبوس، وهم دائمو الشكوى والتذمر من الحياة، استسلموا لليأس حتى لم يعودوا قادرين على التمييز بين نفعه وضرره، وإن سألتهم عن السبب، تجدهم لا يعرفون جوابا، فهم يجهلون الأسباب.

ويتعجب شاعرنا من ذلك، ويدعوهم إلى البهجة والفرح والتفاؤل؛ ليسعدوا بحياتهم، بعيداً عن الهموم والأحزان التي لا طائل منها، وما السعادة إلا محض فكرة، إذا آمنا بها وجدناها، فيقول:

 أيّها الشاكي الليالي إنَّما الغبطةُ فِكْرَهْ

ربَّما اسْتوطَنَتِ الكوخَ وما في الكوخِ كِسْرَهْ

وخَلَتْ منها القصورُ العالياتُ المُشْمَخِرَّهْ

تلمسُ الغصنَ المُعَرَّى فإذا في الغصنِ نُضْرَهْ

وإذا رفَّتْ على القَفْرِ استوى ماءً وخُضْرَهْ

وإذا مَسَّتْ حصاةً صَقَلَتْها فهيَ دُرَّهْ

لَكَ، ما دامتْ لكَ، الأرضُ وما فوق المَجَرَّهْ

فإذا ضَيَّعْتَها فالكونُ لا يَعْدِلُ ذَرَّهْ

ويدعو الشاعر البائسين منهم، ينصحهم قائلا: يامن تشكو وتتذمر من الليالي افرح وابتهج، فإن البهجة والفرح أفضل من هذا التذمر، فربما تجد البهجة في كوخ صغير ليس فيه إلا القليل، بينما تفتقر إليها القصور العالية الفخمة مع ما فيها من الترف والنعم، فالفرح والابتهاج ينعكسان على نظرة الإنسان إلى ما حوله، فيرى الغصن اليابس نضرًا، وتتحول الصحراء إلى واحة غَنّاء تمتلئ ماء وخضرة، وتتغير نظرته للأشياء فيرى قيمتها الحقيقية. 

ثم يستطرد قائلا:

أيُّها الباكي رويداً لا يسدُّ الدمعُ ثغرَهْ

أيُّها العابسُ لن تُعطَى على التقطيبِ أُجْرَهْ

لا تكنْ مُرَّاً، ولا تجعَلْ حياةَ الغيرِ مُرَّهْ

إِنَّ من يبكي لهُ حَوْلٌ على الضحكِ وقُدْرَهْ

فتَهَلَّلْ وتَرَنَّمْ، فالفتى العابسُ صَخْرَهْ

سَكَنَ الدهرُ وحانتْ غفلةٌ منهُ وغِرَّهْ

إنَّهُ العيدُ… وإنَّ العيدَ مثل العُرْسِ مَرَّهْ

ينادي على الإنسان: إن السماء والأرض لك أيها الإنسان فتمتع بهما، لا تضع لحظات السعادة والفرح من حياتك، فالكون لا يساوي شيئا بدونها، والبكاء لن ينفعك، ولن تأخذ أجرا على عبوسك وتجهمك، فلا تجعل حياتك وحياة الآخرين قاسية بسبب كآبتك، فالقادر على الاكتئاب، لا يعدم القدرة على الابتهاج أيضا، فافرح وابتهج لتتغير الحياة في نظرك، ولا تكن كالصخرة الجامدة بلا حياة.

لقد حانت غفلة من الزمن، واتى وقت الفرح والسعادة، وهذا هو العيد، فتمتع به؛ لأنه كالعرس ربما لن تأتيك بهجته إلا مرة في العمر، فلم تضيعها؟

لقد أجاد إيليا أبو ماضي مزج الفكرة بأحاسيسه وقناعاته، فوصل بها إلى أعماق أحاسيسنا ولمس جوانب الإقناع العقلي والوجداني في نفوسنا، فاكتسبت معانيه إنسانيتها التي تسافر بها عبر الزمان والمكان، فالإنسان هو الإنسان، يحتاج في أوقات كثيرة لمن يدله على الدرب ويضيء له الطريق حتى يعرف أين تقوده خطوته.


قصيدة الغبطة فكرة – إليا أبو ماضي

رأي واحد على “الغبطة محض فكرة.. إيليا أبو ماضي وفلسفته في الحياة

  1. هذا القصيدة الرائعه 😇 ، دلني عليها معلم ناصح رفيق لينا سهلا نعمَ من تصاحبه هو ذلك الرجل. فجزاه الله خيرا ورضي الله عنا وعنه

    إعجاب

اترك تعليقًا على إسماعيل إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.