ابن الكيزاني.. رائد الشعر الصوفي في العصر الفاطمي

ابن الكيزاني.. رائد الشعر الصوفي في العصر الفاطمي

د. عوض الغباري

اللوحة: الفنان الفلسطيني خالد شاهين

تغنى شعراء مصر بالحب الإلهي في شعر متفرد حافل بالمواجد الصوفية منذ تأسيس ذي النون المصري للتصوف العربي الإسلامي إلى أن تتابعت أمواجه العذبة في شعر روحى صاف توجه ابن الفارض سلطان العاشقين.

وابن الكيزاني (محمد بن إبراهيم) الذي شهد العصر الفاطمي إلى حوالى النصف الأول من القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي) شاعر صوفى مصري كبير، اشتهر شعره في الحب الإلهي، وقدَّم “العماد الأصفهاني” في خريدته جانبا مهما منه، وأشاد به وبشعره كثير من أعلام التراجم في التراث العربي. أعتني الدكتور على صافي حسين بحياته وشعره فأضاء جوانب مجهولة عن هذا الشاعر الكبير.

والتجربة الصوفية فردية روحية رامزة، لها إشاراتها التي تحتاج إلى التأويل. ولذلك كثرت مصطلحات التصوف وطبقاته وطرائقه، لكن التصوف المصري أصيل الارتكان إلى الكتاب والسنة، وفلسفته الرمزية قائمة على الحب الإلهي مصوَّرا بالغزل، ظاهره بشرى، وحقيقته إلهية. وهو تصوف ورد شعراؤه المنهل العذب للنيل الذي أكسبهم حلاوة في الشعر، كما قال ابن سعيد الأندلسي:

أيا يا ساكني مصر غدا النيل جاركم

فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر

فقد شربوا من ماء النيل، ومن عذبت قطرات مياههم لطفت كلمات شفاههم، كما قال “الصفدي”.

وعبَّر ابن الفارض عن الاتجاه الصوفي بما يؤكد الشخصية المصرية، ومذهب شعرائها في الحب الإلهي، والتعبير عنه برقة وعذوبة، يقول:

وعن مذهبي في الحب مالي مذهب

وإن ملِتُ يوما عنه فارقت ملتي

ويقول:

ما بين معترك الأقداح والمهج

أنا القتيل بلا إثم ولا حرج

أما ابن الكيزاني فقد أشاد “العماد الأصفهاني”برقة شعره” لما أودع فيه من المعني الدقيق، واللفظ الرشيق”. وهو إلى ذلك فقيه عالم.

اختار الدكتور شوقي ضيف من جميل شعر ابن الكيزاني قوله:

تلذ لي في هوى ليلى معاتبتي

لأن في ذكرها بردًا على كبدي

ولو تمادت على الهجران راضية

بالهجر لم أشكُ ما ألقي إلى أحد

فالحب الإلهي تتجلى عذوبته في عذابه، متمثلاً في “ليلى” المعشوقة البشرية التى تعد رمزا للعشق الإلهي في الأدب الصوفي.

والشاعر قلق مضطرب، قلبه معلق بحب الله، هائم صبُّ يخشى البعد عن الحبيب، يقول:

يا حادي العيس اصطبر ساعة

فمهجتي سارت مع الركب

لا تَحْدُ بالتفريق عن عاجل

رفقا بقلب الهائم الصَّبِّ

أما سهولة الشعر ورقته في التعبير عن الحب الإلهي فبادية في قوله في ترنيمة صوفيه رائعة:

اصرفوا عني طبيبي

ودعوني وحبيبي

علِّلوا قلبي بذكراه

فقد زاد لهيبي

طاب هتكي في هواه

بين واشٍ ورقيب

لا أبالي بفوات النَّفس 

ما دام نصيبي

ليس من لام وإن 

أطنب فيه بمصيب

جسدي راضٍ بسُقْمي

وجفوني بنحيبي

أن هذه اللوعة والوهج العاطفي إحالة إلى الحب الصوفي مشارًا إليه بمفردات شعر الغزل.

وابن الكيزاني رائد الشعر الصوفي في مصر الفاطمية لانشغال الفاطميين عن التصوف بنشر مذهبهم الذي لم يرق للمصريين لغلوه وبعده عن روح الإسلام الوسطي السمح.

وقد اشتهر القول بسيف المعز وذهبه تعبيرًا عن فشل المعز لدين الفاطمي مؤسس الدولة الفاطمية في مصر في إثناء المصريين عن المذهب السني إلى المذهب الشيعي رغبًا أو رهبًا.

ولكن المصريين اتفقوا مع الفاطميين في حب الرسول –ص- وآل بيته، وفي الاحتفالات بالمواسم الدينية المختلفة، وفي حب العلم، فقد تأسست دار العلم أو دار الحكمة وهي أكبر مكتبة في العالم في العصر الفاطمي.

وقد عٌرِف الكيزاني بالعلم والزهد والتواضع والعطف على الفقراء كما اشتهر أنه من عُبَّاد “الفسطاط”، والملازمين لجبل المقطم للعزلة والتعبد، وقد دفن بالمقطم.

ولابن الكيزاني، كالصوفية، أحوال ومقامات عبَّر عنها في شعره، من ذلك قوله:

يا من يتيه على الزمان بحسنه

اعطف على الصَّبُ المشوق التائه

أضحي يخاف على احتراق فؤاده

أسفًا لأنك منه في سودائه

فالجمال الإلهي يتجلى في إهاب غزل رمزي يصوِّر حيرة العاشق، ونيران الحب.

والتصوف رحلة روحانية للوصول إلى الله عن طريق إكثار الطاعات، وترك اللذات، والاتجاه إلى الله قلبا وقالبا، والانشغال به عمن سواه.

وهو من فناء الصوفي عما سوى الله بالمكابدة والعناء في مخالفة هوي النفس، والصبر على العبادات، والتقوى، وتمني الوصول بالله، وخوف البعد عنه، وهو بمصطلح التصوف البسط والقبض. وقد حظي ابن الكيزاني بمكانة كبيرة في عصره، وكان يتمتع بقبول حسن في وعظه للناس بأسلوب جميل. ولم تؤثر فلسفة المذهب الفاطمي الباطنية في الأدب المصري، في الأغلب، كما قرر، وتوافقه، رائد دراسات الأدب المصري الدكتور محمد كامل حسين، إلا فيما اتصل بالدعوة الفاطمية، أو مدح الخلفاء الفاطميين.

وعلى ذلك جاء شعر ابن الكيزاني صافيا من المذاهب الفلسفية الغريبة عن الذائقة المصرية التي لا تميل إلى الطابع الجدلى في العقيدة الفاطمية.

كذلك التف المصريون حول ابن الكيزاني متأثرين بصلاحه وعلمه.

وكان شعر ابن الكيزاني يتردد على الألسنة لما اتسم به من سلاسة وسهولة وعذوبة تؤثر في النفس بمعانيها العظيمة.

والطابع العربي الغزلي من البكاء على الأطلال ، والشوق إلى الحبيب ماثل في قول ابن الكيزاني إشارة الى الحب الإلهي:

بربكما عرّجا ساعة

ننوح على الطلل الدارس

ففيض الدموع على رسمه

يترجم عن حُرق اليائس

وعهدى بغزلانه رتعا

لدي ملعب بالدمي آنس

ولي فيهم شادن أهيف

يفوق على الغصن المائس

وقد وصف “العماد الأصفهاني” شعر بن الكيزاني بقوله:

“لكلامه رقة وطلاوة، ولنظمه عذوبة وحلاوة”، كما أشار إلى حب الناس لديوانه، وحرصهم على اقتنائه.

ومن شعره في الوعظ:

قف على الباب طالبا

وودع الدمع ساكبا

زينة العبد بالتقي

فاجعل الصدق صاحبا

وسهولة الشعر هنا وسيلة وغاية للوصول إلى المتلقي الذي أخذ يردد مثل هذا الشعر في يسر. مثال ذلك، أيضا، قوله:

والله لولا أن ذكرك مؤنسى

ما كان عيشـي بالحياة يطيب

ولئن بكت عيني عليك صبابة

فلكل جارحة عليك نحيب

أتظن أن البعد حلَّ مودتي

إن بان شخصك فالخيال قريب

ويتغنى الشاعر بمعاهد الأحبة، ويتشوق إليهم في شعر صادر عن لوعة الحب ورقة المشاعر كالشعر العربي العذري الذي ربط الدكتور “محمد غنيمى هلال” بينه وبين الشعر الصوفي في الحب الإلهي، وأشار إلى التأثير المتبادل بينهما.

ومن شعر ابن الكيزاني هذه الأبيات الرائعة:

يا من يري عذلى به وتحرقي

ونحول جسمي في الهوى وتشوقي

لم ألق مثلك مفرطا في صده

عمدًا ولا في الحب مثلي قد شقي

فبفرط صدك بل بفرط محبتي

إلا نظرت إلىَّ نظرة مشفق

إني لأجزع منك ما لو ذقته

لعلمتَ ماذا في الهوى قلبي لقي

جر كيف شئت فلست أول عاشق

كأس المحبة في محبته سُقي

إنه استعطاف الحبيب، يجري في مثل هذه القصيدة، فتراه شعرًا غزليًا، وتراه شعرًا صوفيا معبِّرا عن العشق الإلهي، والعاشق الذي يسقي كأس المحبة.  والخمر مجلي رمزي مهم في الأدب الصوفي يشير إلى لذة الحب الإلهي، كما في تائية ابن الفارض التي يقول في مطلعها:

سقتني حميا الخمر راحة مقلتي

وكأس محيا من عن الحُسن جَلَّت

فشهود الجمال والجلال الإلهي يجعل المتصوف العاشق منتشيا انتشاء شارب الخمر، والخمر الصوفية محيط رمزي يشير إليه مصطلح “السّكْر” في المصطلح الصوفي.

والتصوف حالة سيكولوجية، ولكنه مع تداخله بمصطلح علم النفس مختلف عنه، وكذلك تداخله مع الفلسفة، لأنه ركن ركين في الفلسفة الإسلامية، لا تعني كذلك نفي خصوصيته وتفرده.

والوجد الصوفي هو الفضاء الذي يدور المتصوف في فلكه وقد فَنِي عن نفسه وانشغل بمحبوبه، يقول ابن الكيزاني:

ووجد وشوق وارتياح ولوعة

وهجر وسقم دائم ونحول

دواعي الهوى محتومة فاصطبر لها

وإن جَارَ بَيْنٌ أو جفاك خليلُ

وانظر إلى قول ابن الكيزاني، مكررًا ما يدل على رضاه في تقلبه بين أحوال ومقامات تجمع بين العذوبة والعذاب في الحب الإلهي:

أنعموا لي بالوصال

وارحموا رقة حالى

لا تذيبوا مهجتي

بين التجني والدلال

ليس عندي في هواكم

قد بدا لي قد بدا لي

فإن اخترتم عذابي

لا أبالي لا أبالي

وهي ترنيمة صوفية حلوة في الحب الإلهي.

وعلى ذلك فابن الكيزاني متسق مع مصطلح التصوف من مثل ما ورد في الرسالة القشيرية من تعريف الإيمان بأنه تصديق القلوب بما أعلمه الحق من الغيوب، وهو متسق في تصوفه مع الكتاب والسنة، ملتزم بآداب الصوفية في حضرة الله.

ومن أهمها الزهد الذي قيل فيه: إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله به ملكًا يغرس الحكمة في قلبه.

والمتصوف راض على كل حال بما قضي عليه محبوبه، وهو الذات الإلهية التي شغلت الأدب الصوفي، ورفدته بأروع الصور في الأدب العربي.


الأستاذ الدكتور عوض الغبارى أستاذ الأدب العربي – قسم اللغة العربية – كلية الآداب- جامعة القاهرة. ورئيس قسم اللغة العربية – كلية الآداب سابقا. ومدير مركز جامعة القاهرة للغة والثقافة العربية سابقا -أستاذ زائر للغة العربية وآدابها بجامعة أوساكا للدارسات الأجنبية باليابان سابقا. وعضو الجمعية اليابانية لدراسات الشرق الأوسط. 

له أكثر من (٣٦) كتابا، منها: «الأدب المصري من الفتح العربي الإسلامي لمصر إلى العصر العثماني». «دارسات في أدب مصر الإسلامية». «نقد الشعر في مصر الإسلامية». «مقامات السيوطي». «مناهج البحث الأدبي». «مصر في أدب الرحلة في العصر العثماني». «شعر الطبيعة في الأدب المصري». «مصادر التراث العربي». «حافظ إبراهيم؛ شاعر النيل». «محمد عبده؛ رائد الإصلاح والتنوير». «عائشة عبد الرحمن؛ بنت الشاطىء». إضافة إلى أبحاثه في الدوريات العلمية المحكمة والمؤتمرات.. نال عددا من الجوائز؛ منها: جائزة التفوق العلمي لجامعة القاهرة عام ٢٠٠٧، جائزة عبد العزيز الأهواني للتميز الأكاديمي للبحث العلمي في الأدب المصري عام 1991، جائزة طه حسين للتفوق الدراسي – قسم اللغة العربية –كلية الآداب – جامعة القاهرة عام 1977.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s