سعد عبد الرحمن
اللوحة: الفنان التونسي نجيب بلحوجة
كتبت و نشرت من قبل دراسة بعنوان “بين النحو و المنطق” و هي عن مناظرة من أشهر المناظرات في تاريخ الثقافة العربية وقعت بين أبي سعيد السيرافي النحوي و متى بن يونس المنطقي و أوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه الشهير ” الإمتاع و المؤانسة “.
و هأنذا أكتب عن أشهر مناظرة على الإطلاق في تاريخ الثقافة العربية و هي المناظرة التي قتلت سيبويه إمام أئمة النحو العربي ، و سأنشر ما كتبته هنا على ثلاثة أجزاء ، و إليكم الجزء الأول منها:
المناظرة القاتلة
المناظرة لون من ألوان ” الأدب الشفاهي ” العربي تطور من أشكال سابقة عليه كالمفاخرة و المنافرة و نذكر من منافرات العصر الجاهلي الشهيرة منافرة امرئ القيس و علقمة بن عبدة الشهير بعلقمة الفحل ، و قد ظهرت المناظرات في عصر الخلفاء الراشدين إبان خلافة الإمام علي بن أبي طالب و من أشهر مناظرات ذلك العصر مناظرة عبد الله بن عباس و الخوارج حول موقفهم من الإمام ، و من المناظرات التي زخر بها العصر الأموي اشتهرت مناظرات كثيرة من أهمها مناظرة قتادة بن عبادة السدوسي و محمد بن شهاب الزهري ، و مناظرة عبد الله بن شبرمة و إياس بن معاوية ، ومناظرة عبد الرحمن الأوزاعي وغيلان الدمشقي ، وقد اشتد الخلاف في العصر الأموي بين الفرق السياسية من خوارج و شيعة و أمويين و بين الفرق الدينية مثل القدرية و الجهمية و المرجئة .
و مع ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في العصر العباسي ازدهر فن المناظرات و بلغ أوجه كما و كيفا مستمدا عناصر ازدهاره من ثراء الحياة العقلية العربية التي انفتحت في ذلك العصر بقوة على الثقافات المجاورة لا سيما الثقافتين الفارسية و اليونانية ، و من اليونانية على وجه التحديد ترجمت كتب الفلسفة و المنطق ، و من مظاهر ثراء الحياة العقلية العربية في ذلك العصر تعدد المدارس اللغوية و النحوية و تنوع مجالس الأدب في بلاط الخلفاء و قصور الأمراء و كثرة الفرق الكلامية من الأشاعرة و المعتزلة ، و قد اشتهر المعتزلة على وجه الخصوص بقدراتهم الفائقة على الحوار و الجدل ، و قد حذقوه لاثبات صحة آرائهم و دحض حجج خصومهم ، و قد ادى التدافع الحضاري و العرقي الذي اشتد في تلك المرحلة من تاريخنا إلى نشوب خلافات بين المسلمين و غيرهم من أصحاب الملل و النحل و الثقافات الأخرى ، و كان لكل ذلك أثره في كثير من العلوم العربية و في الأدب العربي شعره و نثره ، ومن فنون النثر التي تأثرت بالعوامل السابقة بصفة عامة و بالفلسفة و المنطق بوجه خاص فن المناظرة .
و المناظرة في اللغة مشتقة من النظير أو من النظر بمعنى الإبصار أو الانتظار أو الفكر أو المقابلة ( و لا تخفى وجوه المناسبة ) و في العرف هي المدافعة أي “تردد الكلام بين الشخصين يقصد كل منهما تصحيح قوله و إبطال قول صاحبه مع رغبة كل منهما في ظهور الحق ” و يمكننا تشبيه المناظرة بالمباراة و لكنها مباراة جدلية بين شخصين حول موضوع معين أو قضية محددة لكل منهما فيها رأي أو وجهة نظر مناقضة لوجهة نظر الآخر و كلاهما يعتقد أن وجهة نظره هي الصواب و وجهة نظر خصمه هي الخطأ ، وقد تنوعت المناظرات في العصر العباسي فشملت مختلف العلوم و مجالات التنازع الفكري في ذلك العصر ، وتتم المناظرة كالمباراة الرياضية في وقت و مكان معينين أمام جمهور من الحاضرين ، و هذا الجمهور إن لم يكن كله مختصا فأغلبه من المهتمين بموضوع المناظرة ؛ و هو الحكم الذي يفصل في نتيجة المناظرة فيقرر من هو الطرف الفائز فيها ، و للمناظرة قواعد و أصول يفترض أن تكون ملزمة للمتناظرين والخروج عليها صراحة أو ضمنا يخل بمصداقيتها ، ولكن كشأن المباريات في كل زمان و مكان كثيرا ما تتعرض تلك الأصول و القواعد لخرقها و الالتفاف عليها بوسائل شتى بغية هزيمة الخصم أو إخراج النتيجة هكذا و إن لم تكن في جوهرها كذلك ، لذلك صنف كثيرون قديما و حديثا في القواعد و الأصول التي ينبغي على المتناظرين اتباعها في أثناء سير المناظرة ( يسمونها آداب المناظرة و شروطها ) و مثلوا في مصنفاتهم لتلك القواعد و الأصول و لكثير من أشكال خرقها و طرق الالتفاف عليها (انظر دراستنا بين النحو و المنطق).
و مع ذلك فالواقع في أغلب المناظرات يختلف عن الصورة المثالية التي ينبغي أن تكون عليها المناظرة كما قعد لها المقعدون و نظر لها المنظرون في كتاباتهم، وكما أن الهزيمة في المباريات الرياضية شديدة الوطأة و التأثير السلبي على نفسية الطرف المهزوم فكذلك الأمر في المناظرات ، و تعظم شدة الوطأة و يزداد التأثير السلبي كلما كان انتصار الخصم انتصارا غير صريح أي انتصارا ملتبسا أو مشكوكا فيه كأن تكون الهزيمة نتيجة ظروف غير ملائمة اكتنفت المناظرة أو بتواطئ من المحكمين أو ما إلى ذلك ، و بالطبع تختلف درجة التأثير السلبي على الطرف المهزوم حقا أو باطلا بحسب التركيبة الشخصية لذلك الطرف وقدرته النفسية على تجاوز الهزيمة تعاليا أو تفسيرا أو تبريرا ، إلا أن تاريخ هذا الفن أثبت لنا أن بعض الأطراف المهزومة في المناظرات كانوا من الهشاشة النفسية بحيث لم يستطيعوا تجاوز لحظة الهزيمة و وصلت بهم درجة التأثر السلبي بها إلى حد الموت حزنا و كمدا .
و على كثرة المناظرات فإن ما دون منها قليل حفظته لنا بعض مصادر الأدب ، و قد تعرض كثير من المناظرات في أثناء التدوين للاختصار أو العبث لأغراض شتى لا مجال هنا لتفصيلها، وعلى قلة ما دون من المناظرات إلا أن بعضها اشتهر شهرة عريضة واسعة و ما فتئ الأدباء يتذاكرونه و يتداولونه في مجالسهم وحلقات سمرهم ؛ و من تلك المناظرات مثلا “مناظرة أبي سعيد السيرافي النحوي و متى بن يونس المنطقي” ومناظرة بديع الزمان الهمذاني و أبي بكر الخوارزمي ” و ” مناظرة الأصمعي و الكسائي ” ، لكن أشهر المناظرات على الإطلاق هي المناظرة التي عليها مدار حديثنا في هذه السطور و نعني بها ” مناظرة سيبويه و الكسائي ” التي تعرف باسم ” المسألة الزنبورية ” و قد وقعت في حضرة الأمير يحيى بن خالد البرمكي و في قصره و حضرها جملة من تلاميذ الكسائي في مقدمتهم الفراء و علي الأحمر و ابن سعدان و هشام بن معاوية كما حضرها جماعة من الأعراب الحطمية (1) ممن ينتفعون من الكسائي لقربه من السلطان و قد جاء بهم معه إلى المناظرة ، و في الواقع لم تحظ مناظرة بما حظيت به هذه المناظرة من الذيوع و الانتشار بين الناس و الاهتمام من صفوة علماء اللغة و النحو على وجه الخصوص قدامى و محدثين ، إنها ” المناظرة القاتلة ” التي أودت بحياة ” سيبويه ” العلم المفرد ؛ نسيج وحده في علم النحو ؛ و صاحب ” الكتاب ” الذي لا نظير له في إحكام تأليفه و إحاطته التامة بموضوعه ؛ الكتاب الذي لم يحتج لشهرته بين الناس إلى عنوان فحين تسمع أو تقرأ كلمة ” الكتاب ” لا ينصرف الذهن إلا إلى كتابين فقط هما : القرآن الكريم و كتاب سيبويه في النحو .
(1) الحطمية: نسبة إلى الحطمة و هي قرية قريبة من بغداد قال ياقوت في معجمه إنها على بعد فرسخ (أي ثلاثة أميال) من بغداد .