سعد عبد الرحمن
اللوحة: الفنان الفلسطيني خالد شاهين
لم تحظ مناظرة بما حظيت به مناظرة سيبويه (١) والكسائي (٢) التي تعرف باسم “المسألة الزنبورية” من ذيوع وانتشار بين الناس، واهتمام من صفوة علماء اللغة والنحو قدامى ومحدثين، إنها “المناظرة القاتلة” التي أودت بحياة “سيبويه” صاحب “الكتاب” الذي لا نظير له في إحكام تأليفه وإحاطته التامة بموضوعه؛ الكتاب الذي لم يحتج لشهرته بين الناس إلى عنوان فحين تسمع أو تقرأ كلمة “الكتاب” لا ينصرف الذهن إلا إلى كتابين فقط هما: القرآن الكريم و كتاب سيبويه في النحو.وقعت المناظرة في حضرة الأمير يحيى بن خالد البرمكي (٣) وفي قصره وحضرها جملة من تلاميذ الكسائي في مقدمتهم الفراء (٤) وعلي الأحمر (٥) وآخرون.
بواعث المناظرة ودواعيها
ثمة بواعث لـ “المناظرة القاتلة” ودواع عامة أغلبها إن لم يكن كلها يعود في الأساس إلى المناخ العام الذي ساد ذلك العصر، فقد كان عصرا يموج بالحراك الفكري والنشاط العقلي، وتنوعت فيه التيارات العقلية والمذاهب الفقهية والمدارس اللغوية والنحوية؛ واتسعت دوائر الخلاف والجدل والحجاج بين أصحاب تلك التيارات والمذاهب والمدارس وتبعا لذلك كثرت المناظرات بينهم، كل جماعة تحاول الانتصار لما تعتنقه وتقتنع به من آراء وأفكار، ولقد شجع اهتمام الخلفاء والأمراء والوزراء بالتفقه في اللغة والشعر والأدب والتزين بالعلم والتحلي بالمعرفة أمام مواطنيهم؛ شجع ذلك الاهتمام التدافع العقلي والفكري الذي كانت المناظرات أهم أشكاله، كما أفضى انخراط بعضهم في غماره مع هذا الطرف أو ذاك إلى توهجه وازدهاره، ومما هو جدير بالذكر أن التدافع العقلي والفكري لم يكن حكرا على مجتمع النخبة سواء السياسية أو العلمية بل تغلغل في أغلب طبقات المجتمع ولم يكن أيضا التدافع محصورا في نطاق عاصمة الخلافة فقط بل امتد إلى الأمصار والمدن الحواضر في ذلك العصر كالبصرة والكوفة فلا غرو إذن أن تحتدم المنافسة بين مدرستي البصرة والكوفة النحويتين (٦) وتحاول كل مدرسة منهما إثبات أهميتها وأفضليتها وتأثيرها العلمي في مواجهة المدرسة الأخرى ولا غرو أن يتعصب علماء كل مدرسة منهما لمنهج مدرستهم العام في النظر إلى اللغة ومعالجة قواعد النحو بل إن المنافسة بين البصريين والكوفيين تجاوزت الحد فصارت غلوا وتعصبا وغدا ديدن كل فريق منهما تخطئة الفريق الآخر، نفهم ذلك من خلال أخبار كثيرة منها مثلا ما حدث به أبو عثمان المازني حين قال: دخلت بغداد فألقيت علي مسائل فكنت أجيب على مذهبي (أي المذهب البصري) وهم يخطئونني على مذهبهم (أي المذهب الكوفي).
فضلا عن تلك البواعث والدواعي العامة هناك البواعث والدواعي الشخصية فالمناظرة كالمباراة الرياضية بين الأشخاص وسيلة لإثبات المقدرة الفذة والجدارة بالفوز على الخصم، والنصر في المناظرة مدعاة للفخر ويملأ نفس المنتصر ونفوس شيعته بالكثير من مشاعر الفرح والسرور، لهذا فإن كثيرين ممن يستشعرون في أنفسهم القدرة على إثبات أنهم الأفضل في مجال معين كانوا يسعون إلى طلب المنافسة من نظرائهم وأندادهم في ذلك المجال وما أكثر المناظرات التي انعقدت بين العلماء في مجالات اللغة والنحو والفقه والكلام حتى بين أقطاب أو تلاميذ المدرسة الواحدة، وللمناظرة القاتلة موضوع حديثنا في هذه السطور بواعث وأسباب شخصية فقد كان الكسائي عميد مدرسة الكوفة في النحو كما كان سيبويه على صغر سنه عميد مدرسة البصرة، فمن الطبيعي إذن أن يسعى كل منهما إلى منافسة الآخر لأن في انتصار أحدهما انتصارا لشخصه وانتصارا لمدرسته في آن معا، وما عزز من بواعث تلك المناظرة ودواعيها الشخصية أن الكسائي قدم مبكرا من الكوفة إلى بغداد حيث اتصل ببيت الخلافة كمؤدب للرشيد ثم للأمين بن الرشيد وهذا جعله يصيب جاها وثروة كما سبق أن ذكرنا، ولحرصه الشديد على ألا يفقد شيئا مما هو فيه من النفوذ والنعيم لم يكن من مصلحته أن يأتي من يزاحمه على شيء منهما ولم يأل جهدا في سبيل ذلك الهدف، بدليل أنه حين أصيب بالـ ” وضح ” واستعفاه الرشيد من مهمة تأديب الأمين ظل يماطل ويسوف ويخترع المبررات تلو المبررات عسى أن يبقوا عليه فلما ألحوا عليه وخشي أن يفلت الأمر برمته من بين يديه اختار خلفا له أكثر تلاميذه ارتباطا وتأثرا به وأقلهم طمعا وطموحا في الحلول محله وهو علي الأحمر ولم يفعل ذلك إلا بعد أن خطط أن يكون له السيطرة على عملية التأديب من خلال إشرافه على تلميذه؛ أما سيبويه فقد جاء من البصرة إلى بغداد متأخرا بحثا – كما يرى بعضهم – عن موطئ قدم في أحد قصور الأسرة الحاكمة فهو بما لديه من علم غزير قمين هو الآخر بأن يصيب جاها وجدير بأن يحصل ثروة، وربما جاء فقط من أجل مناظرة الكسائي وإثبات أنه على صغر سنه أكثر منه استيعابا لعلم النحو وإحاطة بمسائله وقضاياه، وربما جاء من أجل الأمرين معا.
الكيد لسيبويه
تجمع أغلب المصادر على أن الساعي إلى المناظرة كان سيبويه، شد الرحال إلى بغداد وقد عزم – اعتدادا بنفسه وثقة بمحصوله الوفير من العلم – على منازلة الكسائي في مناظرة يثبت فيها أنه الأفضل وحين استقر بمدينة السلام قصد الأمير يحيى بن خالد يسأله أن يجمع بينه وبين الكسائي في مناظرة وترك له تحديد موعدها، ولكن سيبويه لما شد الرحال إلى بغداد كان منفردا فلم يصحبه من تلاميذه أحد وهذا أمر غريب يدعو إلى الشك فلو صح أنه البادئ بالسعي إلى منازلة الكسائي فمن غير المعقول أن يكون الأمر قد نجم فجأة لديه فإن فكرة مغامرة كهذه لابد أنها قد أخذت وقتا حتى اختمرت في ذهنه واقتنع بها، ومن غير المعقول أن يكون سيبويه عندما اقتنع بالفكرة قد كتمها في نفسه فلم يفض بها إلى تلاميذه أو بعضهم على الأقل، ومن غير المعقول أيضا أن يكون قد فعل ذلك ولم يجد من يناقشه في وجاهتها من عدمه، ومن غير المعقول أكثر ألا يتحمس بعض تلاميذه للذهاب معه كي يعضدوه ويشدوا من أزره فمصير مناظرة كهذه لا يتعلق بسيبويه فقط بل بمدرسة الكوفة كلها، لذلك فإن المعقول من وجهة نظرنا أن سيبويه لم يذهب إلى بغداد لتحدي الكسائي وإنما للبحث – شأنه شأن كثيرين أمثاله من العلماء والأدباء والشعراء – عن نصيب أوفر من الرزق، فبغداد في ذلك العصر كانت في أوج تألقها وازدهارها كعاصمة للإمبرطورية الإسلامية مترامية الأطراف، فقد كانت تبسط نفوذها وتأثيرها على مساحات شاسعة وشعوبا شتى من العالم القديم، وفي بغداد كانت تصب كل خيرات الدنيا؛ وفي بغداد كان يقيم الرشيد الذي نظر يوما إلى غمامة عابرة وفق ما جاء في إحدى الحكايات فقال لها: “أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك غدا”؛ وإن لم تكن الحكاية صحيحة فدلالتها على اتساع رقعة الدولة وعلى ما كانت تنعم به من رغد ورخاء صحيحة، وعندما عرف الكسائي وصحبه وهم كثيرون لقرب بلدتهم الكوفة من بغداد أن سيبويه جاء إلى بغداد خشوا أن يزاحمهم هذا الفتى العبقري الطامح على ما هم فيه من الجاه النعيم، وإذا افترضنا أن قدوم سيبويه وحده أمر لا يزعج كثيرا إلا أن قدومه بلا شك سيشجع كثيرين غيره من البصريين على القدوم وفي النهاية قد يغلبونهم على أمرهم الذي استتب لهم في بغداد وهذا هوما يزعج حقا ولا يمكن السماح به، لذلك فليس بمستبعد أن يدس الكوفيون وأنصارهم على سيبويه من أغراه بفكرة المناظرة وفي نفس الوقت راحوا يعدون عدتهم ويتقاسموا الأدوار فيما بينهم مبيتين االنية والعزم على هزيمة المغامر الجريء بالحق أو بالباطل في إطار مبدأ – بل بتعبير أدق لا مبدأ – “الغاية تبرر الوسيلة” السائد لدى أغلب الأفراد والجماعات التي لا تهمها سوى مصلحتها الخاصة حتى يكون عبرة لغيره فلا يزعجهم مزعج عما هم فيه من نعمة وجاه وتخلو لهم وجوه أربابهم من الخلفاء والأمراء وكبار القادة ذوي العطايا الجزلة والجوائز السنية، وربما لذلك نصح الأمير يحيى سيبويه – بحسب رواية الأخفش – أن يعدل عن عزمه على مناظرة الكسائي معللا ذلك بأن الكسائي له مكانته في بغداد وعند الرشيد، وذلك معناه أن الأمير لم يكن يتوقع انتصار الكسائي في مواجهة سيبويه إذا وقعت المناظرة بل كان يتوقع العكس وهو لذلك يحاول الحيلولة دون حدوث ذلك، فالكسائي مربي ابن الرشيد وشديد القرب من أكبر رأس في الإمبراطورية، وليس من المستبعد أنه يؤدي له ولأسرته خدمات من خلال موقعه لا يمكنهم التفريط فيها، وإذا أحسنا الظن بالأمير يحيى قلنا إنه فعل ذلك لأنه خبير بنفسية الكسائي وشيعته واستعدادهم لفعل أي شيء يحول دون ضياع ما بأيديهم وربما نمت إلى علمه أطراف من المؤامرة فأراد أن يخلص ذمته ويرضي ضميره بهذا النصح، ولكن ما يعزز من قوة أنها مؤامرة تم تدبيرها بليل ما رواه الزبيدي في طبقاته عن المبرد من أن الكسائي: لما علم بمقدم سيبويه شق الأمر عليه فجاء إلى جعفر بن يحيى وأخاه الفضل فقال لهما: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل إنما قدم ليأخذ محلي، قالا: فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما، وفي هذا الكلام ما يدل على أن الساعي إلى المناظرة لم يكن سيبويه كما يبدو الأمر من الظاهر أو كما أريد تلبيسه على الناس وإنما هي فرصة أتاحها الفضل وجعفر البرمكيان – سواء بعلم الأمير يحيى أو بغير علمه – لصاحبهم الكسائي كي يتخلص من خطر مزاحمة سيبويه له على مكانته وعليه أن يدبر أمره مع نفسه ومع أصحابه لإنجاز ذلك وهذا ما يفهم من قولهما له (فاحتل لنفسك).
هوامش
(١) سيبويه: هو أبو بشر أو أبو الحسن عمرو بن عثمان بن قنبر، من أصل فارسي و”سيبويه” لقبه الذي عرف به ويعني بالفارسية رائحة التفاح، وقد طلب في البداية علوم الدين ولكنه سرعان ما انصرف عنها إلى طلب علوم الأدب وقد غلب عليه النحو، وكان عالما بالقراءات واللغة، وتتلمذ لجماعة من كبار علماء اللغة والنحو كالخليل بن أحمد ويونس بن حبيب وأبو خطاب الأخفش (الأخفش الكبير) وعيسى بن عمر، ويعد سيبويه إمام المدرسة البصرية في النحو. وليس لسيبويه من التصانيف سوى كتاب واحد أعجله الغم وفرط الحزن اللذان أفضيا إلى موته عن أن يضع له عنوانا فسمي بـ “الكتاب”، ولم يشتهر الكتاب ولم يشتهر معه صاحبه الشهرة المدوية إلا بعد وفاته، ومن شدة تقدير العلماء لكتاب سيبويه كانوا يلقبونه بـ “قرآن النحو”. توفي سيبويه في ريعان الشباب قبل أن يكمل الأربعين من عمره عام 180هـ على الأرجح.
(٢) الكسائي.: هو أبو الحسن بن علي بن حمزة من أصل فارسي؛ والكسائي لقب لقب به قيل لأنه حج محرما في كساء، ويعد الكسائي إمام الكوفيين في اللغة والنحو بل يرى بعضهم أنه مؤسس المذهب الكوفي أو المدرسة الكوفية في النحو بالرغم من أنه – كما روى بعض من ترجموا له – قد طلب النحو كبيرا وقد تلقى علومه على أيدي المفضل الضبي وزائدة بن قدامة والأعمش ومعاذ الهراء والخليل بن أحمد الفراهيدي وآخرين غيرهم، ولم يكن مبرزا في اللغة والنحو فقط بل كان أحد القراء السبعة المشهورين وإليه انتهت رياسة الإقراء في الكوفة وقد شهد له بعلو كعبه في النحو والقراءات جملة من العلماء. نال الكسائي حظوة كبيرة لم ينل مثلها عالم غيره لدى الخلفاء العباسيين فقد اختاره الخليفة المهدي لتأديب ابنه هارون الرشيد كما انتدبه الخليفة هارون لتأديب ولده الأمين، وقد توفي الكسائي عام 189هـ.
(٣) يحيى البرمكي: أبوه خالد البرمكي، من أصول فارسية عريقة؛ فقد كان جده برمك سادن بيت النار ببلخ، وخالد هو مؤسس الأسرة البرمكية ولاه أبو العباس السفاح ديوان الخراج والجند ثم غدا وزيرا وأقره المنصور في منصبه، أما يحيى بن خالد صاحبنا في موضوع “المناظرة القاتلة” فقد تربى في كنف العباسيين والتحق بخدمة الخليفة المنصور الذي شمله بعطفه فولاه أمر أذربيجان ولما تولى المهدي الخلافة جعله كاتبا له ومسؤولا عن تربية ولي عهده هارون الرشيد، وقد أرضعت زوجته هارون فصار ابنا لها في الرضاعة واستمر كاتبا للرشيد عندما اعتلى سدة الحكم وصار الخليفة، وكان الرشيد يعد يحيى بمثابة أبيه؛ وجعله وزيره الأوحد فجمع له الدواوين وأطلق يده في شؤون الدولة يتصرف فيها كيف يشاء. وظل يحيى بن خالد البرمكي وأولاده الفضل وجعفر وموسى ومحمد في ذروة سنام المجد حتى نكبهم الرشيد عام 184 هـ، وقد توفي يحيى في الحبس عم 190 هـ وله من العمر سبعون سنة.
(٤) الفراء: هو يحيى بن زياد ويلقب بالفراء لأنه يفري الكلام أي يصلحه، أحد أعمدة مدرسة الكوفة في النحو ولا غرو فهو تلميذ الكسائي وصاحبه الذي يتعصب له ولمنهجه، كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب. له من التصانيف التي توصف بالقيمة: كتاب الحدود، المصادر في القرآن، اللغات، الوقف والابتداء، الجمع والتثنية في القرآن، الفاخر، فعل وأفعل، المذكر والمؤنث في القرآن، مشكل اللغة الكبير، مشكل اللغة الصغير، كتاب الواو، ما تلحن فيه العامة وغيرها، وأغلب تلك التصانيف مابين مخطوط ومفقود، كان من المتصلين بالخلفاء وقد انتدبه المأمون لتأديب ولديه فأصاب جاها ومالا كثيرا، توفي الفراء عام 207 هـ.
(٥) علي الأحمر: هو أبو الحسن علي بن المبارك الأحمر اللحياني، كان من تلاميذ الكسائي وأحد أعمدة مدرسة الكوفة في النحو، وهو مؤدب الأمين، وقد توفي علي الأحمر عام 206 أو207 هـ.
(٦) مدرسة البصرة النحوية أقدم من مدرسة الكوفة وكلاهما يعتمد القياس في استنباط القواعد بيد أن الفرق بين المدرستين هوأن القياس لدى البصريين يجب أن يكون مبنيا على الأعم والأكثر تداولا ودورانا من الشواهد، بينما مدرسة الكوفة لا تشترط ذلك بل تعتمد الشاهد الواحد الشاذ وتعمم قاعدته وتجعله أصلا تقيس عليه ثم إنها لا تتثبت من رواة شواهدها. ولذلك يرى علماء النحوقديما وحديثا أن البصريين أكثر دقة من الكوفيين وأشد حيطة لأمرهم.