سعد عبد الرحمن
اللوحة: الفنان الإنجليزي إدوارد وادزورث
ذكرنا في الحلقة السابقة أن سيبويه لم يذهب إلى بغداد لتحدي الكسائي وإنما للبحث عن نصيب أوفر من الرزق، وعندما عرف الكسائي وصحبه ذلك خشوا أن يزاحمهم هذا الفتى العبقري على ما هم فيه من الجاه والنعيم، لذلك دس الكوفيون وأنصارهم على سيبويه من أغراه بفكرة المناظرة وفي نفس الوقت راحوا يعدون عدتهم ويتقاسموا الأدوار فيما بينهم مبيتين النية والعزم على هزيمته بالحق أوبالباطل، حتى يكون عبرة لغيره فلا يزعجهم مزعج عما هم فيه من نعمة وجاه، وما يعزز ذلك ما رواه الزبيدي في طبقاته عن المبرد من أن الكسائي: لما علم بمقدم سيبويه شق الأمر عليه فجاء إلى جعفر بن يحيى وأخيه الفضل فقال لهما: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل إنما قدم ليأخذ محلي، قالا: فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما.
وكانت الخطة تعتمد على استدراج سيبويه إلى فخ منصوب بإحكام وتبدأ أولا بإغرائه أن يطلب هو منازلة الكسائي فيكون البادئ والبادئ في العرف العام هو الأظلم لا سيما إذا كان شابا كسيبويه والشباب في العرف العام أيضا مطية الغرور ومستودع الغرارة، يضاف إلى ذلك أن الطرف الآخر شيخ تستدعي شيخوخته مشاعر التعاطف، ثانيا أن يستغل الكسائي فرصة دخول سيبويه المناظرة وحيدا دون أنصار من تلاميذه بينما هو قد استعد لها بحشد مجموعة من تلاميذه وجماعة من الأعراب الذين عاش بينهم مدة طلبه اتقان اللغة وينتفعون منه لما له من حظوة ومكانة لدى السلطان وعلية القوم كما سبق أن ذكرنا، وكان الدور الأول لتلاميذ الكسائي أن يفلوا غرب سيبويه ويخضدوا شوكته ويرهقوه من أمره عسرا وينهكوه قبل أن يأتي الكسائي الذي تأخر في الوصول إلى مكان المناظرة كجزء من المؤامرة وتعاوره تلاميذه – وفي مقدمتهم علي الأحمر والفراء – بالأسئلة عن قضايا نحوية ولغوية كثيرة كما تتعاور الذئاب فريسة انفردت عن قطيعها؛ وكلما أجاب عن سؤال صاحوا في وجهه: أخطأت؛ حتى أعنتوه وأضجروه وضاق بهم ذرعا فصمت، ولم يكن الغرض من الأسئلة التي انهال بها الأحمر والفراء على سيبويه في الواقع معرفة الصواب من الخطأ ولم تكن تخطئتهم له في كل ما أجاب به لأنه أخطأ ولم يعرف وجه الصواب في كل المسائل التي أمطروه بها وهذا أمر من غير المعقول، بل كان الغرض الاستراتيجي الأساسي هو إرهاق الفريسة وإنهاكها حتى يأتي الذئب الأكبر فيجهز عليها كما سبق أن أشرنا، وقد استفز ما حدث مع سيبويه تلميذه أبا محمد اليزيدي وهو أحد نحاة البصرة المعدودين فقال يهجو الكسائي وأصحابه والأعراب الذين نصروه بالباطل:
كُنَّا نَقيِسُ النحوَ فيما مضى
على لسانِ العربِ الأولِ
حتى أتى قومٌ يَقيسُونَه
على لغيِ أشياخِ قُطر بلِ
فكلُّهمْ يعمل في نقضِ ما
به يصابُ الحقُّ لا يأتَلي
إن الكسائيَّ وأصحابهُ
يرقَونَ في النحوِ إلى أسفلِ
وقال أيضا في الكسائي وتلميذيه:
أفسد النحو الكسائي
وثنى ابن غزالة
وأرى الأحمر تيسا
فاعلفوا التيس النخالة
واقعات المناظرة
صمت سيبويه بعد أن أنهك تماما واستولى على نفسه الضجر وحينئذ دخل الكسائي – وبحسب ما ورد في المصادر وهي بلا شك قد استقت معلوماتها عن المناظرة من خلال الحضور وكلهم بدون استثناء من تلاميذ الكسائي وأصحابه أتباع المدرسة الكوفية أو صنائعه من الأعراب والأمير يحيى وابنيه الفضل وجعفر وعلاقتهم الوثيقة بالكسائي لا تحتاج إلى تأكيد، سأل الكسائي سيبويه سؤالا مبدئيا للتخيير: تسألني أم أسألك؟ فقال سيبويه: بل تسألني، فقال الكسائي كيف تقول: قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي أو فإذا هو إياها؟ فأجاب سيبويه: فإذا هو هي، فقال له الكسائي: لقد أخطأت، بل الصحيح النصب فتقول: فإذا هو إياها، ويواصل الكسائي سؤال سيبويه في قضايا نحوية كثيرة من هذا الصنف فيسأله مثلا: خرجت فإذا عبد الله القائم (بالرفع) أو عبد الله القائم (بالنصب)؟ فيجيب سيبويه في ذلك كله بالرفع ويرد عليه الكسائي: إن العرب ترفع ذلك وتنصبه فدفع سيبويه قوله وطال الجدل بينهما حول الصواب والخطأ في تلك المسائل، وهنا جاء دور الأمير يحيى الذي قال: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟ وربما كان الأمير يسأل وهو يعلم إجابة سؤاله فليس ثمة مرجع يثوب إليه الطرفان المتنازعان ويحتكمان إليه لحسم نتيجة المناظرة إلا أولئك الأعراب الحطمية الذين أحضرهم معه الكسائي وجلسوا بالخارج ينتظرون لحظة استدعائهم ليؤدوا الدور المنوط بهم في المؤامرة ومن هؤلاء الأعراب كما ورد في إحدى الروايات: أبو دثار الفقعسي وأبو الجراح العقيلي وأبو ثروان العكلي، فقال الكسائي: هؤلاء العرب ببابك وفدت عليك من كل صقع وقد قنع بهم أهل المصرين (الكوفة والبصرة) يحضرون ويسألون فقال الأمير يحيى لقد أنصفت واستدعاهم فدخل جماعة منهم، ويروى أنهم حين سئلوا عمن يكون معه الصواب في المسألة أجابوا بأن الصواب مع الكسائي فنظر الأمير يحيى إلى سيبويه قائلا: قد تسمع أيها الرجل؛ فاستكان سيبويه عند ذلك وانقبض خاطره لأن الجملة تنضح بانحياز الأمير وميله إلى جانب الكسائي، وفي رواية أخرى جاء أن سيبويه طلب منهم أن يؤكدوا رأيهم بأن ينطقوا الجملة على الوجه الذي قال به الكسائي (فإذا هو إياها) فلم تطاوعهم ألسنتهم على النطق بالخطأ وتهربوا.
ودون إعلان عن النتيجة كسب الكسائي وصحبه المناظرة وخسرها سيبويه ولم تكن النتيجة سوى “محصلة قوى” الأطراف التي شاركت فيها بلغة علم الميكانيكا، وماذا يفعل صواب معه صوت واحد أمام باطل جمع في جعبته كل الأصوات إلا صوتا؟ وقد أجمع علماء النحو واللغة في زمن سيبويه وبعد زمنه كما يقول كامل كيلاني على أن الصواب ما قال به سيبويه، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا شيعة الكسائي والطامعون في ماله وجاهه والمحسوبون عليه وذوو الحاجات والمآرب الذاتية، فعلق مثلا الزجاج على حيلة تحكيم الأعراب فقال: أي أنصاف في الرجوع إلى أعراب وفدوا لحاجتهم، وسيبويه رجل غريب وأخصامه أهل البلد والدولة وإنما الحكم للعارف بالفصيح وغيره، وقد لا يعرف الأعرابي إلا لغته الشاذة؟، وإلى بعض عناصر المؤامرة أشار السخاوي حين قال: لا خفاء على ذي البصيرة أنهم تعصبوا على سيبويه لأنه غريب والكسائي قح بلده ومؤدب أولاد الأمير وله وجاهته بذلك عند الوزير وأرباب الدولة، ويروى أن الأمير يحيى البرمكي أجاز سيبويه قبل أن يغادر مكان المناظرة بعشرة آلاف درهم وكأنه أراد أن يغسل ضميره بتلك الدراهم من درن المشاركة في المؤامرة، وجاء في رواية أخرى أن إجازة الأمير سيبويه كانت بناء على توصية من الكسائي المنتشي بنصره المزيف، وهذا يعني أن الكسائي أراد فيما يبدو غسل ضميره قبل الأمير ولكن مجانا بتلك التوصية.
الموت حزنا وكمداً
غادر سيبويه بغداد حزينا منكسر النفس، ففي مناظرة واحدة خاض مثلها عشرات المرات، انهارت أحلامه التي جاء من أجلها، سواء أكانت أحلامه أن يجد موطئ قدم له في عاصمة الرشيد يمكنه من توسعة رزقه الذي ضاق به في البصرة؛ أو أن يحرز جاها ومكانة بعلمه أحرزهما كثيرون ممن هم دونه، أو كانت أحلامه أن يهزم الكسائي بين شيعته وتلاميذه فحسب انتصارا لمنهجه ومنهج مدرسة البصرة التي يتزعمها؟، ولقد حز في نفسه أن تتم هزيمته بهذه الطريقة غير الأخلاقية وأن تكون نهاية أحلامه في مسألة نحوية واحدة، حتى على افتراض أن إجابته بشأنها لم تكن موفقة وهذا ما لم يقل به أحد من علماء النحو واللغة قدامى ومحدثين، وقد أشار إلى ذلك حازم القرطاجني في منظومته النحوية فقال:
لذاك أعيت على الأفهام مسألة
أهدت إلى سيبويه الحتف والغما
والغبن في العلم أشجى محنة علمت
وأبرح الناس شجوا عالم هضما
لا غرو إذن ألا يعود سيبويه إلى البصرة بعد مغادرته لبغداد، وكأنه خجل أن يعود إليها على هذه الحالة النفسية الزرية، وإنما قصد خراسان ولكنه لم يصل إليها، أعله الكمد وأمرضه الحزن فمات بداء الذرب (داء عضال يصيب المعدة) في الأهواز أو قريبا منها.
يروى أنه حين ألح عليه المرض واشتد عليه الداء دخل عليه أحد عائديه فسأله: كيف تجدك أبا بشر؟، فقال: أجدني ترحل عني العافية بانتقال وأجدني يخامرني الداء بحلول؛ غير أني وجدت الراحة منذ البارحة، قال عائده: فما تشتهي؟، قال: أشتهي أن أشتهى، كما يروى أن أحد عائديه دخل عليه وكان يضع رأسه في حجر أخيه فسأل العائد سيبويه: كيف تجدك؟ فقال:
يسر الفتى ما كان قدم من تقى
إذا عرف الداء الذي هو قاتله
وقيل إن أخاه وهو يضع رأسه في حجره بكى حزنا عليه وسقطت دمعة من عينيه على خد سيبويه فرفع رأسه إلى وجه أخيه، ولما وجده يبكي تمثل بقول الشاعر:
أخيين كنا، فرق الدهر بيننا
إلى الأمد الأقصى، فمن يأمن الدهرا
ويروى أيضا أنه عندما أحس بدنو أجله تمثل بقول الشاعر:
يؤمل دنيا لتبقى له
فوافى المنية دون الأجل
حثيثا يروي أصول الفسيل
فعاش الفسيل ومات الرجل
ومن وجهة نظري أنه ليس بمستبعد أن يكون الكمد الشديد هو السبب في مرض سيبويه ووفاته، ولكن ما عدا ذلك من روايات كتلك التي ذكرناها منذ قليل غير مقنعة فهي تشي أنها – في الأغلب الأعم – موضوعة صنعها القصاص الذين أغرموا بمثل تلك النهايات الحزينة المبكية، كذلك الرواية التي تقول إنهم كتبوا على قبره قول سليمان بن يزيد العدوي:
ذهب الأحبة بعد طول تزاور
ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة
لم يؤنسوك، وكربة لم يرفعوا
وقضى القضاء فصرت صاحب حفرة
عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا
وقد رثى الزمخشري سيبويه مشيدا بكتابه الذي لا يغني عنه كتاب ولا خطباء فقال:
ألا صلى الإله صلاة صدق
على عمرو بن عثمان بن قنبر
فإن كتابه لم يغن عنه
بنو قلم ولا أبناء منبر
رحم الله سيبويه درة علماء علم النحو وواسطة عقدهم، وغفر له بقدر ما خدم بكتابه لغة القرآن ودين الإسلام، لقد ملأ هذا الرجل العبقري الدنيا وشغل الناس بعد موته أكثر مما شغلهم في حياته.