مصطفى البلكي
اللوحة: الفنانة المصرية هبه العدوى عمر
رفعت الزوجة عينيها، رأت الدموع تنهمر من عينى زوجها المحتقنتين بالكثير من الماء، يطلق أنينا مكتوما، يتداخل مع عجيج الحجر الدائر، ولغط الجماهير الغفيرة خارج الدار..
ركنت رأسها إلي الجدار، عانقت العروق المحناة بخيوط الدقيق البيضاء، وأنصتت لصوت تنفسها اللاهث، تحاول كبت رغبة مغادرة مكانها، والذهاب إلي زوجها، وتجاوزه والنظر من ثقب في الباب، لتقف علي ما يدور في الخارج..
دفعها الفضول، فغادرت مكانها، ألقت نظرة علي ما يدور في الخارج.
رأت عددا من الناس يتكتلون في حلقة واحدة، وسطها شعلة من النار، تكاد تحيل ليل التلة إلي نهار، رأت، وعادت إلي زوجها، همست بالقرب من أذنه:
– هم في ازدياد.
تنهد بعمق ورد:
– عزوته كبيرة.
قالها ورفع عينيه إلي السقف، راقب الخيوط البيضاء المتدلية، وحركة حذرة من فأر، يغادر مكمنه إلي مكان مجهول، يتركه، ويلسع الثور المربوط إذ لمح ضعفا في صرير الحجر الدائر. زوجته لمحت ذلك، فقامت، وقالت معاتبة:
– ما كان لك أن تذعن لصوت العقل.
سحب عينيه، وهتف فيها:
– ما نحتاجه الآن قدر كبير من الشجاعة، ولن نجدها ما دام للندم موضع قدم هنا.
منحت كلماته الفرصة للثور المعلق ليبطئ من حركته، فيقل العجيج، وهذا ما لا يريده، فيمسك بالعصا، يلسعه بها، ولم يتركه إلا بعد أن رأى الماء يهطل من عينى الثور متسربا من تحت العصبة المعقودة حولهما، عرف كم كان قاسيا مع البهيم، فكف عن ضربه، وهمس:
ـ نعم كان لا بد من التريث..
سمعت همسه، فأيقنت أن الندم بدأ في تلمس طريقه، فصارحته:
ـ أريدك أن تعرف أن السيد لم ير منى أى شىء.
طالبها بالصمت، لم تذعن له، واستمرت في الكلام:
ـ سمعت وأنا عارية وسط الطست طرقات على الباب، انكمشت، ولم أرد، سكتت الطرقات، ثم عادت بعد لحظات، وفعلت نفس الفعل، لكننى سمعت الطارق يقول:
“الظاهر ليس بداخل البيت أحد”
عرفته من صوته، قلت إنه السيد الصغير، وعرفت أنه يتسلق النخلة من أجل جنى بلحها، فطلبت من الله أن يعطل خطواتك حتى لا تأتى أنت وتراه، وتضطر لفعل نندم عليه، كونه خالف شرط وجودك هنا.
كان شرطه ألا يأتى أحدهم وهو غائب عن البيت، والنخلة الوحيدة القائمة أمام البيت لا يطلعها أحدهم إلا في وجوده.
ـ ومن يخالف؟
سؤال قاله، فرد أكبر الرجال يومها:
ـ دمه مباح.
سمع منها فسكت ولم يعقب، وأصابت عدوى صمته زوجته، فهم الصغير بفتح فمه، ردته أمه بوضع إصبعها مفرودا علي شفتيها المذمومتين، فصمت، وشغل نفسه بنكش الأرض الترابية بعود وجده قريبا منه، لكن ضجيجا ولد في الخارج جعله يرمى العود، وينصت مع والده وأمه، رغبة معرفة ما يجرى دفعته إلى التململ في قعدته، والتحرك إلي الباب.
زرع عينيه في فرجة فيه، فمنح رؤية أفضل.
المساحة الظاهرة له، مكشوفة بفعل حلقات النار، ورغم أنها معبأة بغبار الراكضين، يرى عرى الأقدام الرامحة إلي مدخل التلة، يسكنها بعض الارتجاف، من صدمة مفاجأة ما، ما هى؟ لاكتشافه يُبقى على يقظة عينيه، وأذنيه اللتين التقطتا دبيب حوافر دابة على المساحة الحجرية.
” إنه هو”
قالها وأعاد النظر، فوجده حقيقة كالنار المشتعلة، كاد يكذبها، لولا يقينه، ورؤيته له وهو يتقدم، يحيط به الثائرون.
من فرحته الغضة، خلع عينيه، ومنح الباب ظهره، وظلال من فرحة متحفظة، تتراقص على وجهه، جعلت الريبة تحط على وجه النجار وزوجته.
ـ ماذا جرى؟
سؤال وجهه والده، هو لم يمنحه ولو قدرا مما قل من كلام، تصرفه زرع الصمت، فأصبح شبيها بصمت القبور، خلافا لما يدور بالخارج..
يترك الصغير الوجهين المدهوشين، ويستدير، يجد الأقدام أقل هرجا، وهي تعود إلي حلقات النار، يتركها وبنظرة ماسحة، يبحث عن الشيخ. هناك. الأيدى تتسابق في حمل القش، لتهيئة مكان يصلح لجلوسه، تأثير بسيط من نار الحلقات يصل إلي جلسته، تجعل وجهه المشرق واضحا للصغير يرأه من خلال الفرجة..
يذكرهم الشيخ بكلمات كثيرا ما قالها لهم، في خطبه، وفي جلساته، وهم حوله ينصتون، ويعلنون معرفتهم بهز الرؤوس، الدموع كادت تسيل من بعض الوجوه التي خشعت، إلا عينى السيدين، ظلتا كما هما علي صلابتهما، واصرارهما، شاهد الشيخ ما اكتشف نفس ما اكتشفه الصغير، فسكت، وألقى بنظرة علي البيت، الصغير هيأ له أنه رأى عينيه الناظرتين من الفرجة، فاستدار، ويده علي قلبه، انسحب بسرعة قلقه علي وجهى والديه..
تسليمه بالأمان بوجود الشيخ جعله، يطلق ابتسامة، خص بها الوجهين الفزعين، ولم يتكلم، فتحركت أربع عيون أخرى إلي فرجات في الباب..
الآن، يدور الهمس بين الشيخ والسيدين، فشل النجار في معرفة مفرداته، لكنه تمنى أن ينجح الشيخ في مسعاه، أمنية رافقته وهو يعود إلي مكان جلوسه، وجد الثور قد سكن، والعصا تناديه، ليقبض عليها، ويلسع جسده، طلب يهمله، ويركن رأسه إلي الحائط، يفكر في مصير ينتظره وأسرته، بينما الصغير ينظر إلي وجه أمه، جلس في مكانه، ثم غادره، ونظر من الثقب.
ـ إنه يصرخ فيهم.
غادر الشيخ مكان جلوسه، في منتصف حفر النار وقف، جسده أصبح ظاهرا لهم، ولست عيون تتلمس الرؤية من ثقوب وفرجات في الباب.
نظر إلي أكبر السادة، تفحصه، وهو يمعن التركيز في عينيه، لحظات وابتعد السيد بعينيه بعيدا، رهبة من نظرات الشيخ، ابتسم، وقال:
ـ ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام.
وصلت الرسالة للسيد، فرد:
ـ لم نضربه علي يده ليقبل.
ضرب الشيخ كفا بكف، وضحك قائلا:
ـ تلك المقولة جديدة، عبد يخير، لم نسمع بها، ولم..
قاطعه منبها:
ـ قبل سابق هو أختار زوجته.
قال في صرامة:
ـ الأمر مختلف.
ـ كيف؟
ـ الزوجة جُعلت لحياة الدوام والسكينة، فاختارها، أما البيت مكان الإقامة، جُعل له ليحمي المصلحة.
ظهرت حيرة وعدم ارتياح علي وجه السيد، زادت والشيخ يوضح:
ـ في التلة بيت وطاحونة، ولصوص يأتون، فمن يحمى، ليس غيره، أليس كذلك؟
ـ نعم، لكن..
ـ لكن ماذا؟
ـ كل شىء تم بموافقته.
ـ والشرط.
ـ كان شرطه.
نظر الشيخ بدهشة إلي الباب، فتراجعت العيون، تاركة الثقوب والفتحات، وجلسوا حيث كانوا..