نفيسة خاتون.. المكانة الاجتماعية والدور الدبلوماسي خلال الحملة الفرنسية على مصر

نفيسة خاتون.. المكانة الاجتماعية والدور الدبلوماسي خلال الحملة الفرنسية على مصر

د. ناصر أحمد إبراهيم

اللوحة: الفنان الإنجليزي جون فردريك لويس

تناولنا في الحلقة الماضية من دراسة الدكتور ناصر أحمد إبراهيم «نفيسة خاتون.. صفحة من التاريخ الاجتماعي للجواري في مصر» كيف التحقت نفيسة ببيت علي بك الكبير شيخ البلد، وارتفعت بذلك من محظية في الرق، مجهولة في حريم القصر المملوكي، إلى زوجة شيخ البلد، الرجل الأقوى والمتربع على السلطة في مصر، والذي هام بها حبًا، واعتز بشخصيتها القوية، وبدورها أحبته وتابعت باهتمام بالغ مشروعه السياسي الكبير في التوسع إقليميًا على حساب العثمانيين، فدعمته في كل المراحل التي مر بها، وظلت وفية له حتى أيامه الأخيرة.

ونواصل في هذه الحلقة من الدراسة ارتباطها بمراد بك الحاكم التالي لمصر، وصولاً إلى الحملة الفرنسية وفرار المماليك وبقائها في القاهرة، ودورها الدبلوماسي الكبير الذي توج باتفاقية بين المماليك بقيادة مراد بك وبين الفرنسيين، الذين قدروا مواهبها وقوة شخصيتها وحنكتها السياسية، وبذلك استطاعت الست نفيسة أن تتفادى الكثير من سيئات الاحتلال، بل ويمكن القول بإن فترة الحملة الفرنسية ذاتها كشفت عن دور أصيل لها على المستوين السياسي والاجتماعي.


حزنت نفيسة كثيرا على هذه النهاية الدرامية التي أصابت زوجها بيد من خانوه، من بين أقرب اتباعه، الذين كان فضله وعطاؤه لهم بغير حدود: فقد أعتقهم من العبودية وأدخلهم سلك الإمارة، ومنحهم أعلى المناصب والالتزامات وجعلهم يشكلون صفوة الطبقة الارستقراطية. وعلمتها هذه التجربة القاسية أن السلطة والقوة لا تدومان، وبالقدر نفسه لا تؤمنان للفرد حياته ومجده واستمراريته، وأن سياج الحماية والرصيد الحقيقي الذي يتعين على المرء الارتكان إليه، إنما في التقرب من الناس، ومد يد العون لهم واكتساب مودتهم واحترامهم. 

 لقد اختارت نفيسة أن تعيش بين الناس خارج دائرتها المملوكية؛ في فضاء اجتماعي أوسع نطاقًا مما كانت تحيي فيه؛ لذلك مثلت لها النهاية الدرامية لزوجها نقطة تحول، تجلت عندها رؤيتها الإنسانية التي بقدر ما جعلتها تتجاوز حالة الصراع المادي والسياسي في الوسط المملوكي، بقدر ما كسرت حاجز التغريب والتقوقع والانعزالية المصطنعة: فاتجهت إلى توظيف جزء من ثروتها الكبيرة في عمل بعض المنشآت الحيوية التي تؤمن للناس بعض الخدمات الضرورية؛ فأنشأت حمامين عموميين، يُستغل ريعهما لأوجه الخير، وكُتابًا لتعليم الأطفال، وسبيلا وصهريجًا خلف باب زويلة؛ يتزود منه الناس كامل احتياجاتهم من المياه. وأنشأت وكالة تجارية تشتمل على عدد كبير من الحوانيت التي رصدت ريع إيجارها للإنفاق على السبيل والكُتاب. كما أنشأت فوق الوكالة والحمامين “ربعٌ” لإسكان الفقراء بمبالغ رمزية زهيدة، وقد عرفت هذه المجموعة المعمارية بـ “السُكرية” (التى كانت عنوانًا لأحدى روايات أديبنا العالمي الراحل نجيب محفوظ). وصار عطاؤها وإحسانها موصول على فقراء القاهرة الذين كانت تعرف مواطنهم وتسعى في إكرامهم دون منٍ أو أذىٍ. لقد أصبحت شخصيتها آسرة لكل من أقترب منها أو لاذ بقصرها؛ طالبًا الحماية من ظلم المماليك أو ناشدًا الوساطة في قضاء حاجة ملحة، الأمر الذي جعل المصريين يرون فيها نموذجًا استثنائيًا؛ وخاصة في تلك الفترة المضطربة والمشحونة بالتجاوزات غير المحتملة؛ ولذا لا عجب أن اعتبروها رمزًا للعدالة والحق والبر والإحسان.

 نفيسة المرادية

وكانت نفيسة على دراية بعادة الأمراء المماليك في السماح لأحد الاتباع بفتح بيت الأمير المتوفى، وقد علمت بسعي مراد بك إلى أن يكون الوريث القادم. والحقيقة أن مرادًا رتب لذلك قبل المعركة: فقد اتفق مع أستاذه “محمد بك أبو الذهب” أن تكون مكافأته لقاء المشاركة في خيانة أستاذهم الكبير “علي بك” أن يحظى بفتح بيته والزواج من زوجته “الست نفيسة”. وكان مراد بك نفسه هو من تمكن من إسقاط علي بك من على فرسه خلال معركة الصالحية، وهو من جرحه بسيفه غير مرة وبصورة عجلت من موته بعد أيام قليلة. ويا لها من مفارقة، أن تشكل الأصول والعرف السائد بين البكوات غطاءً شرعيًا لهذا الرجل أن يحظى بأرملة قتيله، ويضع يده على جزء مهم من ثروته العقارية، ويضم إليه مماليكه، وهو ما ساعده على زيادة نفوذه في باكورة صعوده السياسي. وهكذا، فإن الزواج من الست نفيسة منح مرادًا الشرعية والثروة والقوة.

 وبصرف النظر عن الطبيعة القاسية لهذا الميكانيزم المعتاد عند المماليك، إلا أنه يُلاحظ بأن نفيسة قد أفادت منه كذلك بشكل كبير: فالوريث الجديد كان يتعين عليه – وفقًا للأصول المتبعة – أن يلتزم بالحفاظ على وضعية الزوجة الأرملة، وأن يصون مقامها، ويحفظ لها ثروتها وأملاكها من المصادرة: إذ من المعروف أن كل من حاول تجاوز هذه الحدود كان يلقى استهجانًا من الوسط الاجتماعي المملوكي كله، حتى ليصل الأمر إلى حد تكاتف الجميع على إنهاء مركزه السياسي: ونجد في يوميات الجبرتي بعض الحوادث التي تؤكد ذلك، نذكر منها، على سبيل المثال، حادثة الأمير عثمان بك الجرجاوي الذي فقد أعلى منصب يمكن أن يصل إليه أمير مملوكي، وهو  “منصب شيخ البلد”؛ وكان ذلك بسبب تعديه على بعض متعلقات زوجته “بنت  البارودي” التي اشتكته لكبار الأمراء الذين لاموه، وحاولوا إقناعه بالعدول عن هذا التصرف الشائن، لكنه رفض، فكان أن تحزبوا عليه وأطاحوا به من منصب شياخة البلد، واستبدلوه بغيره. وبقدر ما كانت هذه الحادثة لها دويها وأثرها، بقدر ما حدَّت من نزعة مصادرة أملاك الحريم المملوكي واحترام خصوصية التصرف في ممتلكاتهن الخاصة والشرعية. 

 وتبين سيرة مراد بك مع الست نفيسة، على مدار أكثر من ربع قرن (1773 -1800)، أنه احترمها وقدرها وعمل على توسعة حالها وجعلها في مقدمة أثرياء الحريم المملوكي؛ حتى لقد اشتهرت باسمه هو، لا باسم سيدها الأول على بك الكبير، فعُرفت في المصادر التاريخية بـ “نفيسة المرادية”. وقد يُفسر ذلك بطول فترة زواجها من مراد بك (حوالى 27 سنة)، مقارنة بالفترة القصيرة نسبيا التي عاشتها في كنف على بك الكبير، وإن كنا نميل إلى تفسير ذلك بسبب آخر، وهو أن مراد بك هو مَنْ عدَّل من وضعيتها القانونية؛ فقد رفعها من مجرد “محظية مفضلة” إلى مقام “الزوجة الشرعية” ؛ فبالرغم من أن نفيسة كانت لها وضعيتها الأثيرة في بيت على بك الكبير بصفة خاصة، وفى الوسط المملوكي ككل بصفة عامة، إلا أن وضعيتها القانونية/ الشرعية كمحظية يجعلها باستمرار جزءا من تركة سيدها الأول، وخاصة أنها لم تنجب منه طفلاً، كما أنها كانت عاقرًا، فليس من سبيل أمامها إذًا لتغيير وضعيتها القانونية سوى بتحولها إلى زوجة شرعية، لتكتسب صفة الحرة التي لا يمكن أن تطرح للبيع*. ومن هنا مثَّل اقترانها بمراد بك نقلة نوعية في حياتها الاجتماعية، وهذا ما يجعلنا نفترض بأن اقتران اسمها بـ “المرادية” كان علامة على تقدير لهذه الخطوة الفاصلة في حياتها؛، ودلالة ولاء لرجل قوي سعى، منذ اللحظة الأولى، إلى الحفاظ على مكانتها الكبيرة التي لمسها الجميع إبان فترة أستاذهم علي بك الكبير. 

والمعروف أن كبار القادة من البكوات الأمراء ظلوا يحفظون كنيتهم الانتسابية إلى مراد بك وبيته/ أو بالأحرى حزبه، كدلالة ولاء وقوة نفوذ وإطار للتعريف الشخصي؛ لذلك ظهر في تلك الفترة عينها ما يعرف بـ “المماليك المرادية”. إن الاسم يتحول في هذا السياق إلى كنية انتساب ذات صبغة سياسية؛ وفى هذا السياق يمكن افتراض أن لقب “الست نفيسة المرادية” تجاوز المعنى الاجتماعي كزوجة إلى الانتساب كذلك لأهم بيت سيأسى حاز نصيبا واسعًا من السلطة في مصر لمدة طويلة، بلغت قرابة ربع القرن.

وعلى ما كان بينهما من فروق في الطباع الشخصية (اتزان نفيسة وهيبتها في مقابل تهور مراد وتقلب مزاجه الشخصي) إلا أن توافقًا بينهما في وجهة النظر السياسية كان واضحًا، وخاصة حول مسألة جدوى استمرار الارتباط بالسلطنة العثمانية. ولعل ذلك ما يفسر قيام نفيسة غير مرة بتمثيل مراد بك والتحدث باسمه أمام خصومه المماليك والعثمانيين، فضلا عن دورها الواضح، كما سنرى بعد قليل، زمن الاحتلال الفرنسي. 

ولا شك أن ثقل شخصيتها وهيبتها ومواهبها السياسية، جعلت أرباب السلطة يقصدونها دون غيرها من بين حريم مراد بك (الست أم أيوب/ والست فاطمة) اللاتي ظللن خلف أسوار الحريم. ولم يرفض لها مراد بك طلبًا أو شفاعة أو تدخلاً في وساطة، وذلك على مدار حياتها معه، وهذا جعلها تلعب باستمرار دور الوسيط بين السلطة المملوكية والمجتمع. والحقيقة أن ذلك بقدر ما يبين مدى احترام وتقدير مراد بك لها، بقدر ما أظهر مدى ثقتها في نفسها، ووعيها بإمكانية استغلال مكانتها في صناعة دور حقيقي، يُشبع رغبتها في إثبات ذاتيتها، بل وفى إعادة إنتاج نفسها داخل دائرة الضوء السياسية والاجتماعية، لتخرج عن طوق الحياة المادية التي غاصت فيها معظم سيدات القصور المملوكية من أميرات أو إماء أو جواري على حد سواء.

 نفيسة بين خياري المواجهة والهروب

كان وصول بونابرت بحملته على مصر في سنة 1798م، قد جعل الست نفيسة على محك اختبار إرادتها بين اللحاق بزوجها مراد بك المتوجه للصعيد واتخاذها قرار البقاء بقصرها في مواجهة المحتل، وانتظار ما قد يحل بها من عقاب مع زمرة نساء المماليك ممن لم يسعفهن القدر على الفرار واللحاق بأزواجهن: ذلك أن بونابرت كان قد توعد المماليك، قبل دخوله القاهرة، بالهلاك والثبور، والاستيلاء على بيوتهم، وتجريدهم من السلطة والثروة والنفوذ؛ فقد جاء بالمنشور الذي طُبع منه عشرات النسخ، وتم تعليقه على جدران الحارات ومداخل الشوارع الرئيسة: “إننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك.. ونحن في طلبهم حتى لم يبق أحد منهم بالقطر المصري”. وتنقل عدسة الجبرتي مشهدًا دراميًا تتسم فيه حركة الناس، مماليك ورعية، بالطابع العشوائي والفوضوي: “هاجوا وماجو.. وهم جميعًا في غاية الخوف والفزع، وترقب الهلاك، يضجون بالعويل والنحيب، ويبتهلون إلى الله من شر هذا اليوم العصيب، والنساء يصرخن بأعلى أصواتهن من البيوت.. وشاع في الناس أن الإفرنج يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء.. وخرج أكثرهم ماشيًا أو حاملاً متاعه على رأسه وزوجته حاملة طفلها، ومن قدر على مركوب أركب زوجته أو ابنته، ومشى هو على أقدامه، وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين في ظلمة الليل”.

 إن هذه التداعيات السريعة والقلق الذي استبد بالجميع، والذى دفع الباشا نفسه للهروب، وهو الحاكم ورمز السلطنة العثمانية، وكذا كبار الأمراء المماليك، وعلى رأسهم إبراهيم بك الذي اصطحب معه حريمه وجواريه، وما لاحظته الست نفيسة من حركة جماعية لكبار أعيان وشيوخ الأزهر كالشيخ السادات والشرقاوي وعمر مكرم.. الخ، الذين اصطحبوا كذلك حريمهم، وهو ما زاد من ريبة وخوف الأهالي بدرجة عميقة – كل هذه المشاهد لم تزلزل أقدام الست نفيسة، ولم تثنها عن قرارها بالبقاء بالقاهرة، برغم خطورة الموقف وبالأخص بالنسبة لها: فهي زوجة الأمير مراد الذي تصدى لبونابرت، وإذا كان قد هُزِمَ في أول جولة إلا أنه لم يخسر الحرب، واتجه للصعيد، معلنًا عن “حرب مفتوحة”، وهو ما توقع معه قادة الفرنسيين أنه سوف يُكلفهم الكثير من الضحايا؛ لأنها حرب غير نظامية، تعتمد على قاعدة “الكر والفر والمباغتة”، ومن ثم لن يستقيم لهم حكم مصر من دون القضاء على زوجها مراد ومقاومته الشرسة. وهكذا، كان من المتوقع أن يتجه الفرنسيون، فور دخولهم القاهرة، إلى مصادرة قصور مراد بك التي خلَّفها وراءه، ووضع قصوره الأخرى، التي بقي بها جزء من حريمه وجواريه، تحت الرقابة المجهرية؛ كوسيلة من الوسائل التي يتتبعون بها تحركاته واتصالاته ورسائله. لقد بدا لنفيسة أنه من الثوابت التي لن تحيد عنها، مهما ساءت النذر والتوقعات، أنها لا تغادر بيتها، وأنها تؤثر البقاء في الساحة بين الناس، لتقوم بدورها المنوط بها في مثل تلك الظروف العصيبة التي يمر بها المجتمع؛ ومن ثم آثرت مواجهة الموقف على الهروب والاغتراب. 

ويتعين التأكيد على أن القرار لم يكن سهلا على الإطلاق: فالقاهرة من أقصاها إلى أقصاها كانت في أمر مريج، والجميع لم يصدقوا ما كان يحدث، وتحركت عزائمهم لمغادرة البلاد، ولم يمنع البعض منهم سوى من أعجزه تحمل كلفة الهروب وفراق الوطن؛ فالجبرتي يقول عشية الهزيمة: “فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر، البعض لبلاد الصعيد، والبعض لجهة الشرق، وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه، لا يقدر على الحركة، ممتثلا للقضاء متوقعا للمكروه، وذلك لعدم قدرته وقلة ذات يده، وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة، فاستسلم للمقدور، ولله عاقبة الأمور”.

 إن قرار نفيسة ، إذًا، وهى تملك من الإمكانيات ما يفوق غيرها من كبار المماليك والأعيان وشيوخ الأزهر، بالبقاء كان عن قناعة شخصية، وربما تبلور في إطار رؤية خاصة وقراءة عميقة للواقع السياسي: فهي تدرك أن اللجوء للمعسكر العثماني ببلاد الشام لن يؤمن حياتها، وتجربة الحاكم العثماني حسن باشا الجزايرلي، قبل بضع سنوات قليلة (86-1787)، لا تزال ماثلة في الأذهان، وخاصة لقسوتها؛ حين راح هذا الباشا يتهجم على حريم القصور، ويعمل على إخراجهن من خدرهن في صورة بشعة ومهينة، ومحاولته الفاشلة في إذلالهن بردهن إلى الرق، وبيعهن في مزاد سوق الجلابة، لولا تدخل شيوخ الأزهر، إضافة إلى ما درجت عليه استانبول، في تلك الفترة، من تحريم ومنع جلب الرقيق المماليك إلى مصر؛ لتجميد المصدر المُجدد لهذه الطبقة المملوكية، ثم العمل على تصفيتهم بالتدريج عبر سلسلة من الحروب المفتعلة هنا أو هناك، كل ذلك جعل الفكرة السياسية عند الست نفيسة (وزوجها مراد كذلك) تدفعها إلى البقاء. ويفترض بأنها راهنت على رصيد علاقتها القديمة والجيدة مع الفرنسيين قبل الحملة، هذا إلى جانب أن التصور السائد في ذلك الحين لدى الغالبية، وفى مقدمتهم الست نفيسة/ ومراد بك، بشأن تقييم حادثة هذا الاحتلال، جاء في سياق لا يتجاوز اعتباره “حالة طارئة”، لن تستغرق زمنًا طويلا؛ وأن السلطنة والدعم العسكري الإنجليزي الذي ظهر سريعًا في تحطيمهم للأسطول الفرنسي، خلال الأيام الأولى من الاحتلال، علاوة على رهان المقاومة المملوكية والشعبية – كل ذلك سوف يضع في أقصى حالات اختزال التوقعات، نهاية للاحتلال. إن هذه القراءة العملية (المتفائلة) للموقف السياسي، وخاصة من الطبقة المملوكية، التي وجدت نفسها في مفرق طرق، تكشف لنا جزءا من الصورة التى يمكن أن نكونها عن شخصيةالست نفيسة، وفكرها السياسي فى ذلك الحين

نفيسة وحماية الحريم 

جدَّ بونابرت فى تمشيط بيوت الأمراء الفارين ونهبها، فى سباق مع العامة والجعيدية الذين داهموا – قبل دخولهم القاهرة – عددًا من القصور المملوكية، كان من بينها قصور تخص مراد بك وإبراهيم بك وعدد آخر من البكوات. وغداة دخول الفرنسيين القاهرة تقرر إلزام نساء المماليك بأن يدفعن ما عرف بـ”مال المصالحة” عن أنفسهن وجواريهن وأتباعهن من المماليك والخصيان وكذا عن أملاكهن العقارية. وتقرر أن تدفع نفيسة بمفردها مبلغًا كبيرًا جدًا، بلغ 600 ألف فرنك، وتظهر فداحة الرقم إذا قاربناه مع ما كُلِفَ بدفعه كل نساء المماليك، اللاتى تقرر عليهن دفع 120 ألف فرنك؛ ومن ثم فقد دفعت نفيسة وحدها خمسة أضعاف نساء طبقتها. وانطلاقًا من مسئوليتها ذات الطابع الأخلاقى عن زوجات الأمراء – وذلك نظرًا لمكانتها الكبيرة بينهن؛ حيث كان أغلبهن فى السابق من جواريها – ألزمت نفسها بالمبالغ التي فرضها بونابرت عليهن. وبالرغم من أن ذلك قد أرهقها ماديًا إلا أنها لم تتوان لحظة عن رعايتهن ومتابعة أخبارهن بشكل يومى. حتى لقد اضطرت إلى التنازل – فى سبيل ذلك – عن حليها ومجوهراتها؛ لاستيفاء تلك المبالغ. وجدير بالذكر أن من بين ما قدمته الست نفيسة ساعة مرصعة بالجواهر كان قد أهداها لها القنصل الفرنسى “ماجلون” باسم الجمهورية الفرنسية، تقديرًا وعرفانًا بما قدمته من خدمات للتجار الفرنسيين. فكان تنازلها عن هذه الهدية، على حد قول أحد المراقبين العسكريين، ويُدعى ريبو Reybaud  “بمثابة احتجاجٍ شريفٍ منها”.

 والحقيقة إن التطورات اللاحقة بَّينت إلى أي حد قد انشغلت نفيسة بمسألة “حماية الحريم” وحرصها الدائم على تأمينهن ضد أية محاولة تستهدف اقتحام بيوتهن أو تعريض أحداهن للمهانة والإذلال. ومع توالى الفرد والغرامات الثقيلة والتي عدَّها الجبرتي “من أعظم الدواهي” التي نزلت بالناس، لم تتراجع نفيسة عن قضيتها، مهما كلفها الأمر، فلم تلن لها قناة، ولم تفتر لها عزيمة عن حماية النساء. ولم يكن ذلك الدور مرتبط بفترة الاحتلال فحسب؛ وإنما كان ذلك ديدنها في كل الأوقات؛ ولهذا كانت النساء لا تتردد في اللجوء إليها لإنصافها، وخاصة إذا ما تعرضن لمظلمة من اتباع كبار البكوات المماليك. ونذكر من ذلك حادثة اعتداء حسن بك الجداوي على حانوت صائغ نصراني رومي، قبض عليه لينهب كامل ما بحانوته من مجوهرات ومصاغ، ثم قتله شر قتله، ولما توجه لبيت الصائغ فزعت زوجته ولجأت للست نفيسة لتنقذها من الموت المحقق ومن خراب بيتها ونهبه، وتدخلت نفيسة بالفعل وأنقذتها من القتل ورفعت أيديهم عن بيت الصائغ. وفى تقديرنا أن مثل هذا التفاعل الإيجابي هو ما صنع رصيدها الاجتماعي عند الناس، وجعلتهم يلتفون حولها ويشعرون بأهميتها في حياتهم.

نفيسة وسيطًا سياسيًا بين المماليك والفرنسيين

         ولما كان الفرنسيون على معرفة سابقة بدور الست نفيسة ومكانتها في الوسط المملوكي، وأن علاقتها بمراد بك تتجاوز مفهوم العلاقة الخاصة الضيقة إلى مجال يتسع لتبادلها الرأي معه، فيما يتعلق بالشأن السياسي، لاسيما وأنها طوال الوقت كانت مشغولة بمتابعة التطورات وتأثيرها على المصير السياسي لزوجها، فضلا عن احترام الأخير لأرائها السياسية، فقد قرروا مفاتحتها في أمر الصلح مع المماليك، واستغلال مكانتها وتأثيرها بجعلها وسيطًا يمهد لفتح بابا المفاوضات. لذلك سارع القائد العام الجنرال كليبير بإرسال فورييه Fourier إلى قصرها بالأزبكية؛ لاستطلاع رأيها وما يمكن أن تقترحه من حلول حازمة. 

وقام فورييه بإعلامها بأن الفرنسيين على وشك القطيعة مع العثمانيين، ويجب على مراد بك انحياز إليهم، وأنه عند تحقيق الصلح الشامل، سوف يجلو الفرنسيون عن مصر وسوف يصبح هو سيدا لها. وسجل فورييه فى تقريره ردها على هذا العرض، والذى يتيح لنا ملاحظة طريقتها فى التفكير بالنسبة للمستقبل السياسى لمصر والمماليك، وما تقترحه على الفرنسيين بشأن ترتيب عودتهم بحرًا إلى بلادهم، كما أظهرت بوضوح أنها فى نقاش دائم مع زوجها حول مستجدات الأحداث، وأن المراسلات بينهم متصلة بصورة شبه يومية، وأنها فى ضوء ذلك تعرف بأن مراد بك على استعداد للتوصل إلى ترتيب معين معهم، وأن عرضًا سياسيًا كهذا له أهميته، إلا أنها لا يمكنها أن تجزم بحقيقة نوايا زوجها وموقفه؛ لتترك الباب مفتوحًا أمام أية خيارات سياسية أخرى، ولتلفت نظر الفرنسيين، من ثم، إلى ضرورة الدخول في مفاوضات، وأن مراعاة عامل الزمن لإنجاز ذلك لا تقل أهمية؛ حيث أوضحت لـ “فورييه” أنه “لو كانت الظروف قد سمحت ببذل هذا المسعى قبل ثمانية أيام خلت، لكان نجاحه مؤكدا”. لكنها في النهاية أعربت له عن ارتياحها لهذه الخطوة: “إذ أنها ﻻ يمكنها أن تستقبل إﻻ بالسرور اقتراحا يميل إلى منع زوجها من القتال، بالنظر إلى أنه قد يهلك في ذلك العمل، وإنها تفضل على أي شيء آخر الصلح بين الفرنسيين والعثمانيين والمماليك واﻹنجليز”.

 إن ما استوقف فورييه هنا لباقتها ودبلوماسيتها في المناقشة السياسية لمسعى الصلح والتحالف مع الفرنسيين، كما لاحظ طريقتها في إثارة الاهتمام بتعجيل بدء التفاوض ووضع الترتيبات اللازمة لانسحابهم، كما لفت نظره اقتراحها حلا لخروجهم “عن طريق البر بترتيب سيأسى معين يتم تحت رعاية الصدر الأعظم، في حالة رفض الإنجليز الصلح وسدوا عليهم طريق البحر”. ويعزى الفرنسيون الفضل إلى الست نفيسة في اتصالاتها بمراد بك وتأثيرها الكبير في التعجيل ببدء المفاوضات التي انتهت بتوقيع الصلح وعقد معاهدة التحالف، والتي بمقتضاها صار زوجها حاكمًا على الصعيد الذي تنسحب منه كل الكتائب الفرنسية، كما ضمنت المعاهدة تسلمه للسلطة في القاهرة حين جلاءهم عن البلاد. وكان ذلك بمثابة انتصارًا للدبلوماسية المملوكية وخاصة في ظل تناقض مصالح القوى المتصارعة على مصر (العثمانيين والفرنسيين والبريطانيين).

 ولا شك أن الست نفيسة بدعمها لزوجها في هذا الاتجاه، قد اكتسبت احترام الفرنسيين وتقديرهم؛ وهو ما انعكس بوضوح في معاملتهم لها، وإبقائهم على متعلقاتها في قرى الالتزام، بينما تعرضت التزامات حريم الأعيان وبعض زوجات الأمراء المماليك للمصادرة ولغرامات رسوم إعادة التسجيل التي تم إعفاء نفيسة منها. وامتد احترامهم لشخصها حتى بعد رحيل مراد بك المفاجئ: فقد أرسل إليها القائد العام مينو برقية عزاء باسم الجمهورية الفرنسية وجيش الشرق، وفضلا عن ذلك أصدر قرارًا بتخصيص معاشًا لها، تقبضه شهريًا، بلغ 100 ألف نصف فضة، لتأمين وضعيتها الاجتماعية، وعدم تأثرها برحيل مراد بك. 

ومن الواضح إذًا أن فترة الاحتلال، ولو أنها كانت اختبارًا عصيبًا، إلا أن الست نفيسة بسياستها الهادئة وحكمتها في التعامل مع إدارة الجيش الفرنسي، أمكنها أن تتفادى الكثير من سيئات الاحتلال، بل ويمكن القول بإن فترة الحملة ذاتها كشفت عن دور أصيل لها على المستوين السياسي والاجتماعي، ودعمت مسيرتها واستمرارية تفاعلها مع التطورات التي مر بها المجتمع المصري عند منعطف القرن التاسع عشر. 


Merfat Hatem;The Politics of sexuality and gender in segregated patriarchal systems: the case of eighteenth-century Egypt ,Jstor, Feminist studies,vol. 12, No. 2 (summer, 1986),[ pp.250-274], p. 257.


اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s