اللوحة: الفنان الفرنسي أوجين ديلاكروا
تناولنا في القسمين السابقين من دراسة الدكتور ناصر أحمد إبراهيم «نفيسة خاتون.. صفحة من التاريخ الاجتماعي للجواري في مصر» كيف ارتفعت نفيسة من محظية في الرق، مجهولة في حريم القصر المملوكي، إلى زوجة شيخ البلد، والدور الدبلوماسي الكبير الذي لعبته بين المماليك والفرنسيين الذين قدروا مواهبها وقوة شخصيتها وحنكتها السياسية، وفي هذه الحلقة الأخيرة من الدراسة نتابع التغيرات والتحول الكبير في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وانتهاء حكم المماليك وتأثيره على الست نفيسة ومن خلفها مجتمع الحريم المملوكي، وصولاً إلى تهميشها وانعزالها وموتها.
مثلت إصابة مراد بك بالطاعون، أثناء توجهه من الصعيد إلى القاهرة؛ لتسلم السلطة من الفرنسيين، ثم موته المفاجئ بعد أيام قليلة من الإصابة (في 18 أبريل 1801) – حدثًا غير عادى في حياة الست نفيسة؛ إذ بعده تدخل ومعها كل الطبقة المملوكية في مرحلة الذبول والتلاشي، والتي كانت نذرها تتوعد الجميع بنهاية غير سعيدة لمسيرة طويلة قطعتها تلك السلالة في تاريخ المجتمع المصري. وهكذا، كان موت مراد بك مؤشرًا على دخول الست نفيسة في فضاء لا تجد فيه سندًا يؤازرها، سوى رصيدها عند الناس الذين ظلوا ملتفين حولها حتى رحيلها.
ولعلنا لاحظنا في حوارها السابق مع فورييه أنها لم تستطع أن تخفي قلقها وخوفها من احتمالية هلاك مراد بك في قتاله ضد الكتائب الفرنسية، كما أنها بينت مدى حرصها على متابعة مصيره السياسي. لقد كان مرادًا بالفعل سندًا لها، وظهيرًا ترتكن إليه، فضلا عن أنه كان دعمًا ماديًا ومعنويًا لاحتفاظها بدورها في المجال العام. والمتتبع لحالها بعد رحيله، يتبين بجلاء كم مثَّل لها هذا الحادث انقلابًا لكل حظوظها فى المرحلة الأخيرة من حياتها: فالبكوات المماليك من اتباع زوجها لم يكونوا على نفس المستوى من التفكير والتدبير السياسي، حيث سادتهم روح الفرقة والانقسام، ولم يحسنوا تجاوز الخلافات البينية وتوحيد كلمتهم، أمام خصومهم المتربصين بهم من كل جانب. ولعل ذلك ما جعلها تدرك سريعًا بأن مستقبل المماليك السياسي في حكم مصر، لم يعد مضمونًا، وأن استعادة البكوات لوضعيتهم التي كانوا عليها قبل الاحتلال الفرنسي، قد باتت تشكل مهمة صعبة، إن لم تكن مستحيلة. وكانت السلطنة العثمانية قد وجدت فى جلاء الفرنسيين والإنجليز فرصة لإقصاء المماليك، واستعادة هيمنتها على مقاليد الحكم، والتي تم اختزالها إلى أقصى حد، منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر. ومن هنا شهدت الفترة الواقعة بين عامي (1801- 1805) صراعًا دمويًا عنيفًا بين المماليك والعثمانيين.
والدلالة الأساسية لكل تلك التطورات أن نفيسة والحريم المملوكي وجدن أنفسهن داخل مرحلة قاسية، بدون ظهير قوي يوفر لهن الأمان والحماية لما بات ينتظرهن في تلكم الأيام، وخاصة مع لجوء السلطة العثمانية في صراعها مع المماليك إلى استخدام “الحريم المملوكي” كورقة ضغط، تفتح بابًا للمساومات السياسية؛ حيث كان البكوات الفارين للصعيد قد أبقوا، هذه المرة، على حريمهم بالقاهرة. وقد تأثر البكوات أيما تأثر، وعدوا ذلك انتهازية غير مقبولة، وأن تقاليد الفروسية الأصيلة تقتضي استبعاد الحريم من دائرة الصراع السياسي، وهو ما تفيض به كلماتهم المريرة التي ضمَّنوها في كتاب أرسلوه إلى طاهر باشا، ونقل الجبرتي – لحسن الحظ – نص هذا الكتاب، وكان مما جاء به: “وذكرتم لنا أن حريمنا وأولادنا بمصر ربما ترتب على المخالفة وقوع الضرر بهم، وقد تعجبنا من ذلك، فإننا إنما تركنا حريمنا ثقة بأنهم في كفالتكم وعرضكم. على أن المروءة تأبى صرف الهمة إلى امتداد الأيدي للحريم، والرجال للرجال”. ومن منظور ديني وأخلاقي راحوا يذكرون خصومهم بأن الحرب سجال، وأن الله يقلب الليل والنهار، وبيده الملك يؤتيه من يشاء وينزعه عمن يشاء.
وتوالى الاعتداء على بيوت الحريم في مناسبات متباينة خلال تلك الفترة المضطربة؛ ونذكر من ذلك موقفًا جمع لأول مرة بين الست نفيسة ومحمد على، في عام 1804؛ أي قبل أن يتولى الحكم والباشاوية: فحينما تصادف وجود الست نفيسة في بيت البارودي، شاهدت العسكر الذين تأخرت رواتبهم يقومون بالاعتداء على خليل أفندي الرجائي الدفتردار، الذي كان قد نزل بدار حريم البارودي؛ حيث تكالبوا عليه وقتلوه شر قتله، ولم يجد اتباعه ملاذًا للنجاة بأرواحهم سوى الصعود إلى حريم المنزل اللاتي فُزعن وأخذن في الصراخ والعويل من هول الموقف. وأعقب ذلك اضطراب حي الأزبكية بكاملة؛ جراء انتشار النهابة والجعيدية والعسكر، وهنا يشير الجبرتي إلى دور الست نفيسة التى أرسلت في الحال إلى أحد اتباع زوجها مراد بك ، ويدعى سليم كاشف المحرمجي، مطالبة إياه بسرعة تدارك الأمر، وتأمين بيوت الحريم من النهب والاعتداء، وحضر على أثر ذلك محمد علي؛ ليثبت دوره وأهميته في حفظ الأمن ومنع الاعتداءات المشينة التي عكرت صفو الأهالي، وليُظهر في الوقت نفسه احترامه للست نفيسة محبوبة المصريين، وذلك في إطار استغلاله لكل المواقف التي كانت ترفع من أسهمه في نظر شيوخ الأزهر وأهالي القاهرة الذين توسموا فيه تحقيق العدالة والقدرة على تأمينهم.
بيد أن محمد عليًا ما لبث أن تخلى عن البكوات وساند الباشا العثماني الجديد “خورشيد باشا” الذي كُلِف من جانب الباب العالي بالتخلص من البكوات ومصادرة بيوتهم وحريمهم. وهكذا، بدا مشهد الاعتداء على بيوت الحريم متكررًا بصورة فجة، وفى هذه المرة اتخذ الاعتداء على بيوت الحريم مشهدًا دراميًا مُهينًا، وبصورة لم تحدث من قبل لصفوة نساء المماليك: يقول الجبرتي: “وخرج الأمراء على أسوأ حال من مصر.. ونهب العسكر أموالهم وبيوتهم وذخائرهم وأمتعتهم وفرشهم وسبوا حريمهم وسراريهم وجواريهم وسحبوهن بينهم من شعورهن وتسلطوا على بعض بيوت الأعيان من الناس المجاورين لهم، ومن لهم بهم أدنى نسبة أو شبهة، بل وبعض الرعية إلا من تداركه الله برحمته أو التجأ إلى بعض منهم أو صالح على بيته بدراهم يدفعها لمن التجأ إليه منهم ووقع في تلك الليلة واليومين بعدها ما لا يوصف من تلك الأمور وخربوا أكثر البيوت، وأخذوا أخشابها ونهبوا ما كان بحواصلهم من الغلال والسمن والأدهان، وكان شيئًا كثيرًا وصاروا يبيعونه على من يشتريه من الناس“.
وعلى الرغم من أن الأزبكية باتت ساحة غير هادئة، وخاصة مع انتشار النهابة والجعيدية الذين اعتادوا التربص باللحظات التى يُهزم فيها أمراء المماليك؛ حتى يسارعوا إلى نهب بيوتهم قبل وصول خصومهم من عسكر العثمانيين والأرنؤد، إلا أن قصر الست نفيسة ظلت له حرمته المُصانة من الجميع؛ ودلل ذلك على تمييز الناس بمختلف طوائفهم بين الست نفيسة وبقية حريم البكوات. لكن السيدة العجوز أجهدها متابعة المشهد السياسي، وباتت تشعر بضجر وثقل الحياة، وخاصة أن استعادة البكوات للسلطة، وهم في حالة متزايدة من التشرذم والانقسام المستمرين، قد باتت بعيدة المنال، لتجد نفسها تترحم على ذكرى زوجيها على بك الكبير ومراد بك، اللذين كانا قادرين على تجميع طوائف المماليك المصرلية حول عصبة كل منهما، وما تمتعا به من مهارة القيادة والحصافة السياسية في قراءة تحديات الواقع المتغير. ووفقًا لقراءة شيخ محنك مثل الجبرتي، كان اتجاه البكوات إلى التنكيل باتباع أخيهم “محمد بك الألفى الكبير”، خلال فترة غيابه بانجلترا، شاهدًا ماديًا على قصر نظر هذا الجيل الأخير من البكوات وحقدهم ونفورهم من تأمره عليهم؛ إذ كان الألفي هو الشخصية المتوقع لها قيادة المماليك وملئ الفراغ الذي تركه مراد بك، مما جعل المراقبين من خصومهم ينظرون إليهم على أنهم باتوا بالفعل قوة مبعثرة باهتة، تفت في عضد نفسها، ومن ثم توقع لها الجميع أن لن تقوم لها قائمة. وأصبح خط عام 1800 بالنسبة للطبقة المملوكية حدًا فاصلاً بين أعلى نقطة في منحنى صعودهم السياسي وبين انجرافهم السريع من القمة ودخولهم مرحلة الذبول والتلاشي.
وفى هذا السياق من التطورات المحزنة، تجد نساء الأمراء المماليك أنفسهن داخل العملية السياسية المعقدة؛ ذلك أن فرار البكوات للصعيد، وإن أعطى الفرصة لهم للإحاطة بعسكر العثمانيين هناك، إلا أنه جعل خورشيد باشا (الحاكم العثماني) يلجأ إلى تهديد البكوات باجتياح بيوتهم، ولتأكيد مقصده، وأخذه على محمل الجد، ألزم “نساء الأمراء المصرلية” بتحرير مكاتبات إلى البكوات، ليخبرونهم بأنهن وأولادهن تحت التهديد بالاقتصاص إذا ما أقدموا على قتل أحد من عسكر العثمانيين المنتشرين بالوجه القبلي.
والمعروف أن خورشيد باشا كان شديد العداء للمماليك، ويسعى بجدٍ في تصفيتهم وإقصائهم عن مصر، وعلى ما يبدو لم ينتظر رد البكوات، وراح يرسل عساكره إلى بيوت الأمراء للقبض على حريمهم، ويبين الجبرتي حالة الذعر التي اجتاحت نساء المماليك اللاتي نجح بعضهن في الهروب والاختفاء في بيوت العامة، فيما وقع البعض الآخر منهن في أسر هؤلاء العسكر، ونالهن من الإهانة ما لا يوصف!. وكانت محاولة محمد بك الألفي، التي أعلن عنها في كتاب أرسله للمشايخ عن استخارته لله في العودة لأجل حماية “حريم البيوت المملوكية” من الانتهاكات والمصادرات الشاذة والمتنوعة، تمثل آخر محاولة من قبل الأمراء، إلا أنها باءت بالفشل؛ وذلك بسبب قلة اتباعه الذين نجوا من الملاحقات والمطاردات القاسية لكل من البرديسي وإبراهيم بك الكبير. ومما لا شك فيه أن هذه الحوادث المتكررة في مطلع القرن التاسع عشر، تشير إلى ضياع هيبة الطبقة المملوكية، بوصفها صفوة، كانت قد استنفدت، من وجهة نظر المركز، دورها، وبات عليها أن تفسح المجال للحكم العثماني المباشر.
الست نفيسة ومواجهة الباشا العثماني
لقد كان من سوء حظ الست نفيسة، إذًا، أنها عاشت إلى تلكم الفترة التي شهدت زحزحة الصفوة المملوكية عن قمة الهرم الاجتماعي. ولم يكن في وسعها أن تتجنب التأثيرات الناجمة عن مجمل تلك التطورات. وعلى ذلك باتت تتوقع بين الفينة والفينة امتداد بعض الممارسات العدائية من قبل السلطة إلى محيط دائرتها الخاصة. وقد حدث ذلك، ولأول مرة، حين تجرأ خورشيد باشا على الاحتكاك بالست نفيسة بصورة غير مباشرة: فقد أرسل إليها كل من الوالي والمحتسب يطلبانها لمقابلته، وبكل ثقة ووقار وهدوء اصطحبت معها امرأتين من جواريها، وصعدت القلعة، وانزعج الأهالي الملتفون حولها والمراقبون للمشهد عن كثب، وفى مقدمتهم شيوخ الأزهر. ويبين لنا الجبرتي الذي روى ما دار من حوار في ذلك اللقاء، أن خورشيد باشا استقبلها وقام إليها يجلها، مقدمًا لها الاحترام الواجب واللائق بمكانتها، وهو ما يبين أنها كانت لا تزال مُهابة وتتمتع لدى السلطة العثمانية بخصوصية فريدة وملموسة على مستوى الوسط النسائي المملوكي ككل.
ويفيض حوارها بالثقة الكبيرة التي تجلت في كلماتها، كما أظهر قوة دفاعها وحجتها حين راح خورشيد باشا يلومها في أمر جاريتها “منور” التي اتهمها بأنها تسعى في أمر العفو عن “المماليك العصاة” في مقابل دفع الرواتب المنكسرة للجند العثمانيين وغير العثمانيين؛ فيرصد لنا الجبرتي ما جاء على لسانها: “قالت له إن ثبت أن جاريتي قالت ذلك فأنا المأخوذة به دونها، فأخرج من جيبه ورقة وقال لها وهذه وأشار إلى الورقة فقالت: وما هذه الورقة أرنيها فإني أعرف أن أقرأ لأنظر ما هي فأدخلها ثانيًا في جيبه”.
وهنا أدركت الست نفيسة شر المكيدة الملفقة للتحايل على مصادرتها والنيل منها في شخص أحدى جواريها، ورغم قلة حيلتها في ذلك الحين إلا أنها لم تهن ولم تضعف ولم يرهبها استدعائها – لأول مرة في حياتها – للقلعة والامتثال أمام الباشا وقوة عسكره المحيطين بها وبجاريتيها، ولنترك الجبرتي يروى كلمتها القوية التي وجهتها إلى خورشيد باشا، وكيف ردت له مكيدته وأحبطت محاولته في النيل منها: “قالت له أنا بطول ما عشت بمصر وقدري معلوم عند الأكابر وخلافهم والسلطان ورجال الدولة وحريمهم يعرفوني أكثر من معرفتي بك، ولقد مرت بنا دولة الفرنسيس، الذين هم أعداء الدين، فما رأيت منهم إلا التكريم، وكذلك سيدي محمد باشا كان يعرفني ويعرف قدري، ولم نر منه إلا المعروف، وأما أنت فلم يوافق فعلك فعل أهل دولتك ولا غيرهم، فقال: ونحن أيضًا لا نفعل غير المناسب، فقالت له: وأي مناسبة في أخذك لي من بيتي بالوالي مثل أرباب الجرائم فقال: أنا أرسلته لكونه أكبر أتباعي، فإرساله من باب التعظيم، ثم اعتذر إليها”.
ولا شك أن خورشيد باشا، خلال هذا اللقاء، أدرك خطورة المساس بسيدة في وزن وقيمة الست نفيسة في وسطها الاجتماعي، علاوة على عمق علاقاتها مع أرباب الدولة، وخاصة “الحرملك الهمايونى” (الحريم السلطانى) في استانبول. وقد نجحت بذكائها في التعريض غير المباشر بإمكانية إحراجه سياسيًا، إن طوعت نفسه المساس بحرمتها، وهي صاحبة الوجاهة والرصيد الاجتماعي عند الخاصة والعامة، داخل مصر وخارجها. كذلك لا يخفى تعمدها إحراجه أدبيًا حين راحت تقارن موقفه ومعاملته لها، وهو الحاكم المسلم، بموقف ومعاملة نظرائه الفرنسيين الذين أكرموها وهم أمة خارج الملة موسومون بالكفر والضلال!.
ويظل مغزى رواية الجبرتي ذا دلالة قوية: فلقد أسقط في يده، وأمكنها أن تدفعه إلى الاعتذار، وإلى أن يقر بمكانتها وقدرها، على غرار غيره من أرباب الدولة الذين عرفوها ولم يزالوا يواصلونها بعرفانهم واحترامهم لشخصها حتى مجيئه، وأن وجاهة مقامها العالي لا تقبل المزايدة أو الافتئات. وحفظًا لماء وجهه، وحتى يوحى أمام الرأي العام بجدية الشكوك التي دفعته إلى استدعائها على ذلك النحو، طالبها بالتوجه إلى بيت الشيخ السحيمي(١) بالقلعة، محددًا إقامتها هناك تحرسها جماعة من عسكر العثمانلية.
وبدت القاهرة وكأن حادثًا مشئومًا وقع بها، ولا يُدرك إلى أي مدى يمكن أن تمتد آثاره السلبية، وكان شيوخ الأزهر أكثر من حركهم الحدث: فعلى الرغم من أن الست نفيسة وجاريتيها تم إنزالهن في بيت كريم لواحد من كبار شيوخ الأزهر، إلا أنهم عدوا الأمر سابقة خطيرة لا يدرك الباشا ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج وخيمة؛ وخاصة أنهم لا يمكنهم ضبط ردود فعل محبيها من الناس، الذين عمتهم بفضلها وبرها الموصول، ما قد يجعلهم يَهبُّون للدفاع عنها وحمايتها؛ ومن ثم فاحتمال وقوع الفتنة، التي لا يُستبعد مشاركة أمراء مماليك باتباعهم، داخل وخارج القاهرة، احتمال وارد، ما لم يتم سرعة مداركة الأمر!. وأيد شيخ الإسلام قاضى القضاة العثماني شيوخ الأزهر في تقييمهم للموقف وخطورته، وقرر اصطحابهم إلى مقابلة الباشا، وهو ما عضد من موقف شيوخ الأزهر، وأضفى أهمية خاصة على زيارتهم تلك.
ولم تكن مناقشة كبار المشايخ مع الباشا هادئة، وخاصة مع تقاطع تقييم كل منهما للموقف: كانت وجهة نظر الباشا أن الأمر مجرد “مسألة أمنية”، ولا يمكنه المخاطرة بغض الطرف عنها، مؤكدًا على أن مكانة الست نفيسة مُصانة ومعززة، ونزولها في بيت الشيخ السحيمي هو من قبيل تكريمها، ولتكون تحت رقابته في مكان أقرب للقلعة، ومن ثم فالأمر لا يتعلق بشخصها، ولكن له صلة بالشكوك المحمومة حول مساعيها الخفية إلى إحداث انقلاب على السلطة؛ عبر شرائها بالمال ولاء كبار العسكر العثمانلية، واستمالتهم إلى صف البكوات المماليك. وأنه طالما أنها ثرية بدرجة كبيرة، تسمح بسدادها علوفات هؤلاء العسكر، فلماذا لا يلزمها بالدفع، وخاصة أن عجز الخزينة السلطانية عن الوفاء بمرتباتهم وعلوفاتهم هو السبب الرئيس في حالة اللا استقرار التي تعانيها البلاد منذ خروج الفرنساوية.
بيد أن الشيوخ، يدفعهم الشك في نوايا الباشا العثماني، أعربوا عن أهمية تفحص الأمر، ومراجعته مع الست نفيسة نفسها، وأعلموه بضرورة وضع حل ناجزٍ لهذه المشكلة، سواء ثبت تورطها أو لم يثبت، قبل أن تتفاقم وتنتشر الفتنة بين الناس. وبحسب شهادة الجبرتي شاع الخبر في القاهرة، وأثر تحديد إقامة الست نفيسة خارج قصرها في الأهالي الذين “تكدرت خواطرهم”؛ وهو ما يبين درجة تعلق الناس بها، وتقديرهم لشخصها، وخوفهم عليها من أن تمسها الإهانات التي باتت تطول صفوة حريم الأمراء المماليك في كل مكان.
وتولى كل من الشيخ الفيومي والشيخ المهدي مهمة الذهاب للست نفيسة ومراجعتها، وينقلنا الجبرتي إلى عمق الحدث بتسجيله ردها على ما نسبه إليها الباشا العثمانى: “فقالت هذا كلام لا أصل له وليس لي في المصرلية (البكوات المماليك) زوج حتى أني أخاطر بسببه، فإن كان قصده مصادرتي، فلم يبق عندي شيء، وعلي ديون كثيرة”. وتبين للمشايخ أنها مكيدة للتحايل على ما تبقى بين يدى الست نفيسة من ثروة، وقرر الشيوخ رد الباشا عن هذه المظلمة، وخاصة أنهم لاحظوا سعيه إلى تعميم مصادرات مشابهة على حريم المماليك، تحت مسمى “فرد ومغارم”، سوف يُبررها لهم الباشا، بعد ذلك، بأنها ليست بدعة جديدة، ولكنها جريًا على ما كان النساء يدفعونه للفرنسيين زمن احتلالهم للبلاد!. ونحو ذلك الحين، كان محمد بك الألفي، خلال توجهه إلى الصعيد لتقلد إمارة ولاية جرجا، قد ساءه ما تعرضت له الست نفيسة وحريم المماليك، وحرر مكاتبة إلى المشايخ، يعلمهم بأنه استخار الله على العودة بجيشه للقاهرة؛ لأجل حماية نساء المماليك، ومما جاء في مكاتبته: “إن التعرض للحريم والعرض [ أمر] لا تهضمه النفوس”.
لقد كان المشايخ إذًا محقين في تقديرهم لخطورة مثل تلك الممارسات، وخاصة مع الست نفيسة. وكان “الشيخ الأمير” أكثر من تصدى لمراجعة الباشا في قراره، معلنًا له بأنهم غير مسئولين عن التبعات الوخيمة التي إن وقعت لن يمكنهم تداركها؛ يقول الجبرتي: “فعادوا إليه وتكلموا معه وراددهم (الباشا)، فقال: الشيخ الأمير للترجمان قل لأفندينا هذا أمر غير مناسب ويترتب عليه مفاسد، وبعد ذلك يتوجه علينا اللوم، فإن كان كذلك فلا علاقة لنا بشيء من هذا الوقت أو نخرج من هذه البلدة، وقام قائمًا على حيله، يريد الذهاب فأمسكه مصطفى أغا الوكيل وخلافه”.
لقد بدا تحرك المشايخ وإصرارهم على موقفهم أشبه بمظاهرة تدين الباشا في تصرفاته، وتنذر بعدم جلوسهم في مقاعد المتفرجين، وهو ما أوجس منه الباشا خيفة، بقدر ما أقلقه بشده على مركزه السياسي، الأمر الذي يمكن أن نتلمسه في سرعة استجابته لمطلبهم، ونزوله على رغباتهم في إطلاق الست نفيسة، وسحب العسكر المراقبين لها من حول مسكنها، والموافقة على توجهها إلى بيت الشيخ السادات، لتكون تحت رعايته وضمانته الشخصية.
وإذا كان تضامن المشايخ مع الست نفيسة، على هذا النحو، قد مثَّل لها دعمًا لموقفها القوى في مواجهة الباشا العثماني، إلا أن مرورها بهذه التجربة ككل، وإقامتها – لأول مرة – خارج مخدعها، وبعيدا عن قصرها وحاشيتها، كان قد جرح كبرياءها، وسبَّب لها حرجًا شديدًا. بيد أن الموقف من ناحية أخرى، وفر لها، منذ ذلك الحين وحتى وفاتها، حماية خاصة بضمانة المشايخ والأهالي المحبين لها، مما جنبها المشاهد القاسية للاعتداءات المتكررة على بيوت غيرها من كبار حريم المماليك، وهى الاعتداءات التي شكلت ظاهرة فجة في ذلك الوقت، تظل تكشف عن هشاشة وضع الطبقة المملوكية بعد طول معاناتها في الفترة الأخيرة بين نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر.
الست نفيسة وقبضة الدولة الحديثة
كان محمد علي قد تابع عن كثب حادثة استدعاء الست نفيسة إلى القلعة، وسرعة تحرك العلماء والمشايخ لحمايتها، وما أصاب الباشا العثماني من قلق على مركزه السياسي، واستجابته دون شروط للتراجع عن مصادرتها. لقد أفاد محمد علي من تلك الحادثة في ضرورة عدم المساس بالست نفيسة وحاشيتها، وقد ظل منذ حصوله على باشاوية مصر (1805) وحتى وفاتها في عام 1816، حافظًا لها قدرها وحرمة قصرها وأتباعها، وخاصة أنها بدت – في زمنه – عجوزَا طاعنة في السن، فضلا عن أنها باتت لا تشكل مصدر قلق للسلطة، لاسيما وأنه أضعف من مصادر دخل وثراء هذه الطبقة الاجتماعية التي عمل على تنحيتها عن أعلى قمة في الهرم الاجتماعي.
ويمكن القول بإن الست نفيسة خلال العقد الذي عاشته تحت مظلة حكم محمد على باشا، قد أُجِهَدت تمامًا؛ جراء حدوث متغيرات راديكالية: فعلى المستوى السياسي، تابعت الست نفيسة وبقية صفوة نساء المماليك، ما جرى للبكوات المماليك في المذبحة الشهيرة بالقلعة (عام 1811)، والتي على أثرها فقدت القوة المملوكية أخر ما تبقى لها من رجال أكفاء. ومَن أمكنه الهرب منهم، وهم قلائل، هاموا على وجوههم إلى خارج حدود مصر، في منفى شبه إجباري، وضعف حالهم، وانتهت أخبارهم، ولم يعد أحد يشعر بهم. وأصبح الباشا منفردًا بهيمنته على البلاد من أقصاها إلى أقصاها. وكان اختفاء هذا الظهير من على الساحة، وعلى هذه الصورة القاسية والمربكة، قد جعل بيوت حريم المماليك مستهدفة من العسكر وأوباش العامة؛ يقول الجبرتى: “وعندما تحقق العسكر حصول الواقعة وقتل الأمراء انبثوا كالجراد المنتشر إلى بيوت الأمراء المصريين ومن جاورهم، طالبين النهب والغنيمة، فولجوها بغتة ونهبوها نهبًا ذريعًا، وهتكوا الحرائر والحريم وسحبوا النساءوالجواري والخوندات والستات، وسلبوا ما عليهن من الحلي والجواهر والثياب، وأظهروا الكامن في نفوسهم، ولم يجدوا مانعًا ولا رادعًا، وبعضهم قبض على يد امرأة ليأخذ منها السوار، فلم يتمكن من نزعها بسرعة، فقطع يد المرأة!”.
وعلى المستوى الاقتصادي الاجتماعي، عقب المذبحة مباشرة، اتجه محمد على باشا إلى مصادرة الأملاك العقارية، وخاصة التزامات الأراضي التي كانت في حوزة الطبقة المملوكية، وأجرى مسح الأراضي. وهنا تحديدًا وجد حريم المماليك أنفسهن بغير حصص الالتزام؛ فقد صادرها الباشا، معلنًا للجميع أنه ملزم بتدبير نفقاتهن المعيشية الضرورية، دون نفقات ترفهن والأبهة التي كن يعشن تحت مظلتها. لقد تأثرت الطبقة الراقية من نساء المماليك ونساء العائلات الكبيرة الأخرى من طبقة الأعيان، على نحو ما حدث مع عائلات حريم الهوارة، الطبقة الثرية بالصعيد، التي جردها إبراهيم باشا من حصص الالتزام كذلك، ولم تملك مراجعة الباشا عن قراراته في هذا الصدد.
وهكذا، وجدت الست نفيسة ثروتها العقارية تنتقل إلى أملاك الدولة مثل غيرها من عائلات النخبة التيتعرضت للإقصاء أو التهميش. وتنقلب حياة الست نفيسة رأسًا على عقب، وتصبح فقيرة في أخر أيام حياتها؛ حيث “لم يترك لها الباشا سوى موارد بسيطة تتعيش منها، وهذا اﻷمر باﻹضافة إلى مرضها، قد جعل الفصل الأخير في حياتها أليما“. لكنها واجهت ذلك كله بصبر وقوة عزيمة، ولم تفارقها مروءتها ولا علو نفسها ولا إباؤها، وهو ما ترجمه استمرارية تعلق الناس بها حتى وفاتها التي هزت وجدان جميع أهالي القاهرة على نحو ما لاحظ أحد المراقبين الفرنسيين الذي كتب في مذكراته يقول: “انتشر الحزن بين أهالي مصر على الست نفيسة زوجة مراد بك، والتي توفيت إثر مرض مؤلم، استمر لديها زمنًا طويلاً، وأرهقتها السنون والأحزان المفجعة التي حلت بها”.
وسجل الجبرتي يوم وفاتها في يومياته متأثرًا بالقدر نفسه: “ماتت الست الجليلة نفيسة خاتون يوم الخميس لعشرين من شهر جمادى الأولى ودفنت بحوشهم في القرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي وأضيفت الدار إلى الدولة وسكنها بعض أكابرها وسبحان الحي الذي لا يموت”.
وبسبب حكايتها المليئة بالأحداث المثيرة، نسجت الكاتبة الفرنسية فرنسواز برتوليه تفاصيل حياة وموت نفيسة البيضاء في قصةٍ عنوانها: عاشت في الظل.. ماتت في الذل”.
***
وهكذا فإن قصة الست نفيسة يمكن أن تعمل على مستويات عدة: فهي تمس بطرق مختلفة وبأبعاد مختلفة فترة المخاض والتحول الكبير في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وتمس أيضا إشكالية دراسة تاريخ المرأة عموما، والطبقة الراقية من نساء النخبة المملوكية على وجه الخصوص، كما تجعلنا سيرة الست نفيسة في قلب تاريخ المجتمع المصري قبيل خوضه تجربة التحديث. وبذلك فإن حياتها وشخصيتها وسيرتها التي تتجاوز حدود ما هو خاص، على مستوى سيرتها الذاتية، إلى ما هو عام، في تجربة المجتمع المصري، وهو يلفظ الجماعات المملوكية التي حكمته قرونًا عدة، يمكن أن تساعدنا على التوصل إلى فهم أفضل لهذه الفترة التي لا تزال تثير الجدل الشائك بين المتخصصين، ويمكن كذلك أن تفتح الباب لدراسات جديدة حول ما كانت عليه وضع النساء في القرن الثامن عشر وما آل إليه وضعهن في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقضايا أخرى في سياق ما هو اجتماعي ثقافي لتلك الحقبة الهامة في تاريخ المجتمع المصري.
(١) كان الشيخ السحيمي أحد كبار علماء الأزهر، وهو من جيل عبد الرحمن الجبرتي، وكان قد توفي قبيل جلاء الفرنسيين عن مصر نحو نهاية عام 1215/ 1800؟.