أهمية القهوة ومكانتها في العالم المتوسطي والعثماني

أهمية القهوة ومكانتها في العالم المتوسطي والعثماني

د. ناصر أحمد إبراهيم

اللوحة: الفنان المصري عمر الفيومي

تتناول هذه المقالات الآداب والطقوس والقواعد التي شكلت الممارسة الثقافية لشرب القهوة في القاهرة، خلال الفترة العثمانية، وتحاول هذه الدراسة – التي نقدمها على شكل مقالات – تحليل وقراءة الفروق والتباينات السلوكية التي صنعت حدوداً فاصلة بين المجموعات والطبقات الاجتماعية في طريقة شرب القهوة، وهو ما يمكننا من فهم الصورة التي رسمتها كل جماعة لنفسها في عيون الآخرين المحيطين بها. 


لقد تمسك الناس بالقهوة كمشروب مفضل وأساسي، وليس ثمة تعريف أكثر دلالة مما أطلقه كلوت بك (1793 – 1868) على القهوة حين عرفها بـ «الشراب المختار عند المصريين»(١). وإذا كانت القهوة متاحة للجميع، أغنياء وفقراء، بدرجات متفاوتة، إلا أنه من الثابت أنها تبوأت المكانة الأكثر أهمية في مجالس الوجهاء «أصحاب اليسار الذين كانوا يشربون منها في خلال النهار خمسة عشر فنجاناً بل وعشرين فنجاناً»(٢). إن قراءة المصادر المعاصرة تبين بجلاء أنها كانت بحق شراباً نخبويا أصيلاً لم يغب عن قاعات الاستقبال ببيوت الخاصة من الناس على تنوع أصولهم ومشاربهم.

والأهمية التي احتلتها القهوة جعلتها تمر بتطورات مرحلية كبيرة منذ ظهورها كعادة استهلاكية جديدة في مطلع القرن السادس عشر، مروراً بالقرنين السابع عشر والثامن عشر اللذين شهدا درجة واسعة من ابتكار التقاليد والطقوس والقواعد حول طريقة تقديمها، ثم ولوجها عالم القرن التاسع عشر في ظل ظروف مغايرة وتطورات سريعة وهائلة، أعادت هيكلة جماعة النخبة بصورة جذرية ووفق قيم ثقافية ومعايير جديدة جاء بها مشروع التحديث في حقبة محمد علي باشا وخلفائه، مما يثير التساؤلات حول ما طرأ على نسق تقديم القهوة من تغيرات موضوعية، وما استمر من منظومة الممارسات الثقافية والآداب والطقوس المصاحبة لها. كل هذا يجعل الإطار الزمنى للدراسة، بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، ذا دلالة أساسية من زاوية اختبار مدى تأثر «ثقافة الاستقبال والضيافة» – ومحورها القهوة – بسياق التطورات التي مر بها المجتمع المصري بصفة عامة ومجتمع مدينة القاهرة على وجه الخصوص، والذي تركز عليه الدراسة باعتبار أن جماعات النخبة القاطنة فيه كانت أكبر كثافة وأكثر تمسكاً وولعاً بزخم التقاليد والآداب والطقوس.    

البن والقمح سلعتان أساسيتان

اكتسبت القهوة كمشروب اجتماعى أهمية كبيرة، وانعكس ذلك بوضوح فى ازدياد شدة الطلب على البن فى الأسواق المحلية والدولية على حد سواء؛ وكنتيجة لذلك أبدت الدولة العثمانية اهتماماً استثنائياً بـ «البن القهوة»، وخاصة بعد أن أصبح، خلال القرن السابع عشر، مشروباً شعبياً. وظهر أثر ذلك جلياً حين راحت الدولة تدرجه ضمن السلع المهمة التى اخضعتها لفرمانات الحظر الهمايونية، تلك الفرمانات التى بدأ الباب العالى يصدرها تباعاً منذ الربع الأخير من القرن السابع عشر(٣)؛ وذلك على أثر اتساع ظاهرة التهريب، وهى التجارة التى أظهرت الوثائق رواجها بصورة حدَّت بدرجة ملموسة من مفعولية تأثير فرمانات الحظر(٤). وقدر أحد المراقبين المعاصرين فى ستينيات القرن الثامن عشر الكمية المهربة إلى أوربا بأنها تراوحت بين أربعةوخمسة آلاف فرق بن؛ وهو ما مثَّل آنذاك ربع الكمية الواردة إلى مصر سنوياً(٥)

وحمل ذلك دلالة الأهمية التى تبوأتها هذه السلعة الاستهلاكية فى العالم المتوسطى والعثمانى على وجه الخصوص: فقد بات البن – فى كل فرمانات الحظر-  قريناً بالقمح الذى هو أهم سلعة أساسية فى القائمة الغذائية لرعايا السلطنة؛ أى أن القهوة، مقاربة بالسلع الضرورية الأخرى، اكتسبت قيمة نسبية خاصة؛ جراء ما حظيت به من أهمية فى ترتيب اللقاءات والاجتماعات، وطريقة الاستقبال الرسمية وغير الرسمية، فضلاً عن دورها فى التعبير عن الحفاوة والحميمية وواجب الضيافة، ومن ثم فقد تجاوزت دلالتها المادية كمشروب، وتبوأت عن جدارة سمات المشروب الاجتماعى المفضل على كل المستويات فى تلك الحقبة.

وهذا يفسر لماذا لم يعدم الأهالى وسيلة فى سبيل الحصول عليها بأسعار تناسب دخولهم، وكذا اتجاههم إلى ادخار بعض كميات منها تحسباً للظروف الصعبة التى كان يتعذر معها الحصول عليها. وحين كانت تظهر أزمة ما تنذر باختفاء البن من الأسواق أو بارتفاع سعره بشكل يتعذر على الأهالى شرائه، كانوا يسارعون بشتى الوسائل الممكنة لتدبير احتياجاتهم منه: وفى هذا السياق ترصد لنا المصادر المعاصرة حادثتين مهمتين: الأولى، فى زمن الأمير الكبير إبراهيم كخيا (1744 – 1755)، حين أقدم هذا الأخير على استغلال شدة الطلب على البن، بفرض رسوم جمركية مبالغ فيها، فاتجه أهالى القاهرة سريعاً إلى جلب البن عبر ميناء القصير، وهو الطريق البديل والمباشر الذى ذلل إمكانية الحصول على القهوة بسعر مناسب(٦). والحادثة الثانية، والتى تعكس الدلالة ذاتها، وقعت زمن حرب محمد على باشا ضد الوهابيين فى الجزيرة العربية، حيث تسببت الحرب فى اضطراب حركة الملاحة التجارية بالبحر الأحمر، وحالت من ثم دون استيراد بن مخا باليمن، فكان أن اتجه الأهالى – بحسب تقارير القنصلية الفرنسية – إلى جلب كميات كبيرة من البن من جزر الأنتيل Des Antilles(٧)؛ وذلك بواسطة التجار الأمريكانوالإنجليز الذين أفادوا من أزمة بن مخا اليمنى وحققوا أرباحاً غير متوقعة. 


اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s