اللوحة: الفنان العراقي فؤاد حمدي
المعروف أن المجتمع التراتبي التقليدي تحتل فيه الدلالات والرمزيات موقعا متقدما ؛ وليس غريبًا أن القهوة كانت أحد أبرز السلع الاستهلاكية التى انطوت على رمزية خاصة فى آداب الاستقبال والضيافة، لم ينلها أى مشروب آخر فى مصر خلال الحقبة العثمانية ، بما فى ذلك” مشروب الشاى” الذى ظهر بعد الاحتلال البريطانى لمصر فى عام 1882م: فعلى الرغم من أن الشاى تبوأ مكانة واسعة كمشروب اجتماعى شعبى إلا أنه لم يستطع أن يأخذ الأهمية الكبيرة التى نالتها القهوة كمشروب للوجهاء اكتسب نسقاً كاملاً من التقاليد والآداب؛ كما كان لها حضور واضح فى مختلف المناسبات سياسيًا واجتماعيًا، فضلاً عن قبولها الواسع والذى جعلها تمثل أهم ما يمكن تقديمه لنزيلٍ أو ضيف، وذلك على مدار أربعة قرون على الأقل (بين القرنين 16 – 19م) : فقد اعتبرت وسيلة لإظهار حسن الاستقبال والقيام بواجب الضيافة بصورة كريمة ومرضية تمامًا، إلى حد قد يُساء فهم وتقدير المضيف لضيوفه فى حال لم يقدم لهم القهوة. وهذه الملاحظة سجلها مراقبان مغربيان ” الفاسى والورثلانى” اللذين رصدا فى تقرير رحلتيهما العديد من مظاهر الحياة الاجتماعية المصرية (فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر) : فقد ذهبا إلى أن القهوة مثلت فى بيوت الوجهاء سلعة أساسية فى واجب الضيافة، وبيَّنا بأن تقديم الطعام، من دون القهوة، إنما كان يُشين صاحب البيت، ويجعله كما لو أنه لم يقدم شيئًا لضيوفه؛ لأن تقديم القهوة هو أكبر علامة لإظهار كرم المضيف لضيوفه. وكان أكثر ما أثار دهشتيهما “أن القهوة لو قُدِمَت من دون الطعام لكفت!”. وحتى فى حال توعك صاحب البيت وعدم قدرته على استقبال ضيوفه، كان من الشائن، حسبما يذكر ابن عبد الغنى (نحو عام 1728م ) ، أن يترك الضيوف ينصرفون قبل أن يتم تقديم واجب القهوة والشربات لهم. وفى المقابل ترد بالمصادر المعاصرة عبارة وأكرمهم بتقديم القهوة والبخور؛ كدلالة على أن تقديم القهوة صار يمثل أهم أصول استقبال الضيف وإبداء الحفاوة بقدومه.
وبقدر ما بدت القهوة قادرة على أن ترمز وبشكل كامل لفكرة “الواجب الأدبى”، بقدر ما أنها كانت معبرة عن أصول الضيافة. لقد تمتعت إذاً بكثافة رمزية فى حد ذاتها، أكثر من مجرد النظر إليها على أنها مشروب حاز درجة واسعة من القبول ثقافيا واجتماعيا. واستمرت هذه الظاهرة قائمة، تتسلل من جيل إلى جيل، خلال الحقبة العثمانية، حتى لنجد مراقبًا مخضرمًا مثل الطبيب الفرنسى الشهير كلوت بك (استقر بمصر بين عامى 1825 – 1858م)، استوقفته مسألة القهوة ، وأفرد لها مساحة من تحليلاته للممارسات الثقافية المتعلقة بها، ورأى أنها أضحت عادة أصيلة” تحولت بمرور الوقت إلى طبيعة ثابتة فى المجتمع المصرى؛ بمعنى أنها لم تعد ممارسة طارئة أو عرضية أو محدودة. لقد صارت القهوة والشبك معاً أهم ظاهرة اجتماعية مميزة للثقافة الشرقية القائمة حول آداب الاجتماع والضيافة والمؤانسة وشغل وقت الفراغ، وهو ما جعل هذين المشروبين بصفة خاصة حاضرين فى قلب الآداب والعادات الخاصة بثقافة التواصل الاجتماعى والثقافى.
وشكَّل ارتباط شرب القهوة بالغليون ظاهرة واضحة للعيان منذ أواخر القرن السادس عشر، وتدعم هذا الارتباط بمرور الوقت، وصارت ممارسته تقليدًا لا غنى عنه. وفاضت قريحة المصريين بصياغة مثل بليغ عبَّر عن هذه المزاوجة التقليدية فى الجمع بين المشروبين، رصدته كتابات إدوارد وليم لين: “التبغ بلا قهوة كاللحم بلا ملح”. ولعل ذلك يفسر سبب الحرص الشديد من قبل جماعة النخبة على ألا تخلو بيوتهم يومًا من مخزون هذين المشروبين، وخاصة أن لقاءاتهم واجتماعاتهم داخل ساحات قصورهم الفارهة، وبأعداد كبيرة، كانت مشهدًا متكررًا، وبصورة أصبح معها من الأمور الشائنة أن تقصر يد أحد هؤلاء الأمراء والباشوات عن تقديم القهوة والتبغ لضيوفهم.
ويبدو أن هذه المسألة الاعتبارية كانت وراء شيوع ” ظاهرة ادخار البن والتبغ ” التى تحولت فى منظور تلك الطبقة إلى قيمة كبيرة فى حد ذاتها، تشى بعلو المكانة والوجاهة. وبدأت هذه الظاهرة الاجتماعية تستوقف أنظار المراقبين الأجانب وذلك منذ القرن السابع عشر على الأقل: فالأب فانسليب ( زار القاهرة سنة 1671م) بيَّن “أن من بين دلائل عظمة التركى فى القاهرة أن يضع تحت تصرفه كميات كبيرة من القهوة والتبغ، وذلك بوصفهما سلعاً أساسية فى تقديم واجب الضيافة لكل من ينزل به. ولطالما أشارت المصادر إلى حرص البكوات المماليك على تخزين كميات كبيرة من البن فى بيوتهم، وخاصة مع ارتفاع حجم الكميات المستهلكة منه يوميًا: فعلى سبيل المثال كان حجم الاستهلاك اليومى فى قصر الأمير “يوسف كتخدا عزبان” (نحو عام 1143هـ/ 1730م)، المشهور بكرمه وحسن ضيافته، عشرة أرطال من القهوة يوميًا!.
إن ظاهرة ادخار كميات من البن إذًا فرضت نفسها داخل أروقة القصور المملوكية وبيوت النخبة القاهرية ، وتجاوزت المعنى المادى لتنطوى على قيمة ثقافية رمزية فى حد ذاتها. إن الإشارات التى ترد بالمصادر بشأن كميات البن المخزنة فى بيوت البكوات تظهر لنا فى لحظات مؤسفة، وذلك حين كان يتم هزيمة أمير مملوكى أو قتله ونهب بيته بكل محتوياته المادية: ففى تلك اللحظات الاستثنائية يسجل المؤرخون المعاصرون دهشتهم من حجم ما تمكن الحزب المنتصر من مصادرته ونهبه، كما تعطينا وثائق تركات الأمراء المماليك المسجلة بالمحكمة الشرعية فكرة واضحة عن حجم ما كان يحوزونه من البن المخصص لاستعمالهم الخاص: فمثلا رصد اندريه ريمون فى تركة الأمير عثمان كتخدا القاذدغلى ، المتوفى فى عام 1736م ، ما قدره 200 فرق بن !. وكذا كانت الحال بالنسبة لمجموعات نخبوية أخرى، كجماعة العلماء؛ فالجبرتى(توفى فى 1825 م) يُطالعنا فى يومياته، أنه عقب وفاة الشيخ السادات، وقيام محمد على باشا بوضع يده على بيته، والتفتيش فى أركانه ومخابئه، بحثًا عن أصول ثروته النقدية، وجدوا كميات كبيرة من ” بن القهوة والصابون وشموع العسل” مخزنة فى مخبئ سرى!.
إن هذه الإشارات تعطى دلالة ذات مغزى للأهمية النسبية التي انطوت عليها هذه السلع فى حياة هذه النخبة التى ما برحت تدخر منها كميات مناسبة؛ تحسبًا لتلك الأوقات التى كان يحدث أن يشح توافرها بالأسواق. لقد كان الأهالى ينزعجون أيما انزعاج من الأوقات التى يعلن فيها عن تعذر مجىء البن من اليمن، تصل إلى حد إبداء الناس تشاؤمهم ممن يحكمهم من الباشاوات!. ويبدو أن النظرة إلى ظاهرة ادخار كميات كبيرة من بن القهوة كعلامة مميزة للوجهاء والأثرياء، كانت وراء اكتساب القهوة، فى المنظور الاجتماعى، قيمة اعتبارية ؛ فصارت تقدم فى المناسبات المختلفة على سبيل ” الهدية المعتبرة ” التى كان يحفل بها ويتلقاها برضى وافتخار كل من تقدم له : فتبين المصادر المعاصرة قيام البكوات المماليك بمهاداة بعضهم البعض، بكميات من بن القهوة خلال المناسبات والاحتفالات المختلفة التى شاركوا فى حضورها. كذلك كانت الحال عند إعداد أحدهم استضافة خاصة لأحد الباشوات، سواء فى مناسبة توليه باشوية مصر، أو عند عزله واستعداده لمغادرة البلاد. ومن بين ما أشار إليه الجبرتى من هدايا أرسلها محمد على باشا لدار السلطنة صحبة “قهوجى باشا” كانت كميات من” بن القهوة. وهو ما يبين أن القهوة استعملت كوسيلة للتعبير عن القيمة التبادلية. ولم تقتصر هذه العادة على دائرة السلطة السياسية، وإنما شاعت كذلك بين عامة الناس؛ حيث أقبل الأهالى على تقديم القهوة إلى جانب “الشربات وقناديل الشمع” على سبيل الهدية والتحية فى بعض المناسبات الاجتماعية الخاصة.