اللوح: الفنان السوري اسماعيل نصرة
بدأت القهوة فى رحاب الصوفية المحدود تُعرف كممارسة غريبة، إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى أصبحت مشروبًا خاصًابمجالس الذكر الصوفى، بيد أن تأثيراتها على الوسط الحضرى، في القرن السادس عشر، ظلت – كما يذكر رالف هاتوكس – فى أقصى حدودها الدنيا من الانتشار(١). وبقطع النظر عن المسألة الجدلية بين تحريم شرب القهوة وإباحته، فإن تأثير مذاق القهوة كان قد فرض نفسه على الجميع، ودعمت الممارسات الصوفية Sufi practices شيوع الظاهرة التي وجدت، خارج مؤسسات الصوفية، مناخًا مناسبًا وموضوعيًا لانتشارها، وتردد على ألسنة الناس المقولة الشهيرة: “القهوة شراب أهل الله؛ لأنها تساعد على السهر وممارسة الذكر والمناجاة ليلاً. وعلى ما يبدو كان إضفاء أهمية خاصة للقهوة فى الممارسات الدينية، قد جعل الناس يتحمسون لقبول هذا المشروب الجديد، ووفقاً لما جاء فى تقرير الرحالة مصطفى على (زار القاهرة فى عام1599م) شاع اعتقاد بين الناس بأن احتساء المصلين اﻷتقياء لفنجان من القهوة إنما يُضيف حياة إلى حياتهم!. ولعل كتابة الرسائل الفقهية التى بينت فضائلها ومنافعها قد ساعدت على التعريف بها وبأهميتها.
انتشار المقاهي
وعند نهاية القرن السادس عشر أصبحت القاهرة تعج بالمقاهي التى كانت يُقال لها “بيت قهوة”، ونحو منتصف القرن السابع عشر بلغ عدد المقاهى 643 مقهى بالقاهرة، وبعد قرن ونصف القرن (أى فى نهايات القرن الـ 18م) بلغ عددها 1200 مقهى. ولم تزد كثيرًا على اﻷلف مقهى فى عهد محمد على باشا. ويشير كل ذلك إلى انتشار القهوة والمقاهى، وبروز نشاطها فى المجال الحرفى، حتى صارت جزءًا من نسيج المجتمع الحضرى بالمدينة.
وإذا كان انتشار “بيوت القهوة” فى شوارع وأحياء القاهرة قد بات واضحًا للعيان لدى المراقبين الأجانب عند نهايات القرن السادس عشر، فإنه من واقع سجلات التركات التي سجل بها أدوات القهوة وعدد البكارج وأنواعها المختلفة التى عجت بها تركات المتوفيين، يتبين أن شرب القهوة، مع بدايات القرن السابع عشر، تجاوز الفضاء العمومى (المقاهى) إلى الفضاء العائلى، وبات يُمثل، بشكل واضح، حسبما تذكر نللي حنا، عادة أساسية فى بيوت النخبة(٢). ويعنى هذا أن استهلاك القهوة ظل زهاء قرن تقريبا فى فضاء المقاهى قبل أن يتسلل ويأخذ مكانته الكبيرة فى مجالس الاستقبال الخاصة، ويصبح – كظاهرة – مزاجًا عائليًا بالدرجة الأولى، ومع منتصف القرن السابع عشر صارت فناجين القهوة جزءاً أساسياً فى شوار العروس، ما أضفى عليها فى النهاية طابعًا اجتماعيًا خاصًا. وأخذ شراب القهوة طريقه فى الانتشار بشكل واضح داخل مؤسسات السلطة العسكرية التى حولته بمرور الوقت إلى أهم مشروب بروتوكولى أساسى، فى القرنين السابع عشر والثامن عشر، ووُضِعت له ترتيبات دقيقة لافتة للنظر، على النحو الذى حددت معالمه وقواعده مخطوط “الطريقة والأدب”، والذى ألقى الضوء على الجانب السلوكي والثقافي والتواصلي في حياة العسكر. وفى خط متوازٍ، على ما يبدو، أخذت القهوة فى الانتشار من الطبقات العليا إلى الطبقات المتواضعة القابعة فى أدنى السلم الاجتماعى.
من مظاهر الترف
ومع أن شرب القهوة كان متاحًا للجميع، وكان الناس يشربونها بالمقاهى، إلا أن تناولها آنذاك كان فحسب على سبيل التسرية والتلذذ بها فى بعض أوقات الفراغ. بيد أن الأمر اختلف حين اقتحم المشروب موائد الوجهاء والأثرياء ومجالسهم؛ حيث جرى ابتكار طريقة خاصة فى التناول والاستخدام، عبرت عن المكانة بقدر ما عبرت عن وعى هذه الطبقة بمكانتها المتميزة. واستغلت هذه النخبة إمكاناتها المادية فى تهيئة المجال؛ لتدشين عدد من الطقوس التى ابتكرتها حول فنجان القهوة بالإضافة إلى تدخين الغليون الملازم لها أو بالأحرى المقترن بها، فارضة بذلك أسلوبها الخاص. ومن هنا أُدرِج احتساء القهوة والتدخين وسماع الحكايات والاستسلام لمباهج الحريم والموسيقى والغناء ضمن المظاهر الدالة على الحياة المترفة التى سادت داخل بيوت الطبقات الثرية، يقابلها الطبقات المتواضعة والفقيرة التي كانت تشقى وتكدح بحثا عن قوت يومها؛ حيث الرجل (البسيط/ العامى) كان يتوقف بقاؤه على عمله الدءوب والشاق.
وصار من بين أبرز المعايير العامة الدالة على الفرد المنتمى إلى “دائرة الوجهاء الأثرياء” مدى امتلاكه الإمكانية المادية لممارسة “ثقافة وقت الفراغ” التى كان تعاطى القهوة وتدخين الغليون ولعب الدامة والشطرنج مع الأصدقاء أو فى الحريم تمثل أحدى ركائزها؛ ذلك أن الطبقات الدنيا الفقيرة، من منظور أهل القرن التاسع عشر على الأقل، كانوا هم أولئك الذين من النادر أن تتوفر لهم القدرة على تناول طعامهم وشرابهم بمنزلهم مع الزوجة والأبناء؛ ومن هنا لاحظ المراقبون الأجانب أمثال إدوارد لين “ظاهرة تباهى” العديد من الرجال المنتمين إلى الطبقة الغنية بتناولهم الدائم لغدائهم وشرابهم مع زوجاتهم وأولادهم، واعتبر بالفعل أن شرابا القهوة والغليون فى ساعات النهار فى الفضاء العائلى الخاص كان واحدة من الكماليات الترفية، لا تتوفر للجميع الظروف المادية التى تسمح بذلك. وسوف يكتب الطبيب الايرلندى ريتشارد بيرتون ( زار مصر فى عام 1853م) فى إطار مقاربته بين موائد الأثرياء والفقراء فى المجتمع المصرى ما يعكس درجة التباين الطبقى استناداً إلى نوعية المواد المستهلكة ذاتها: “فالعوام الفقراء لا يكترثون عقب تناولهم لوجباتهم الأساسية سوى بشرب الماء، على حين أن الأغنياء بالقاهرة عادة ما يحرصون على شرب قدح من القهوة أو كوب شربات مع تدخين الغليون.
وبداهة كان للوضع المادى قوة الحسم، لكن من ناحية أخرى يجب التأكيد على أن الدلالة الأساسية على قوة المجموعة الاجتماعية وتبوؤها أعلى مراتب السلم الاجتماعى، ليست فى تحديد نوعية معينة من الأطعمة أو الأشربة التى تظهر على موائد أو فى مجالس فئة دون أخرى، وإنما الدلالة الأكثر حسماً فى التصنيف والتميز تظل مرتبطة بمدى القدرة المادية على تفعيل منطق الاستعراض المظهرى والرمزى، وأيضاً من زاوية مدى الوعى بضرورة التميز وخلق الفواصل والحدود بين الطبقة التي ينتمون إليها وبين من كان دونهم في السلم الاجتماعي: فالممارسة الطقوسية حول تقديم القهوة (الراقية) تطلبت فى أحد مظاهرها الأساسية توافر مجموعة كبيرة من الخدم الذين أنيطت بهم القيام بتمثيل الجانب الرمزى الكامل لعملية تقديم القهوة، كما تطلبت بالقدر نفسه توافر المكان المناسب للاستقبال ونوعية معينة من الأدوات المستعملة والتى كانت معبرة بشكل واضح وجلى عن مدى قوة ثراء المضيف ومنزلته الاجتماعية.
(١)يتشكك “إريك جوفروى” فى أن الصوفية فى كل من القاهرة ودمشق ومكة هم الذين نشروا عادة شرب القهوة، مؤكدًا على أناﻹنتشار له أسباب موضوعية أخرى لها علاقة بمجالات خاصة بمجتمع الشرق اﻷدنى نفسه.
(٢)تذكر نللي حنا استناداً إلى وثيقة زواج مسجلة بمحكمة القسمة العسكرية تعود إلى سنة 1642م بأن جهاز العروس اشتمل على 180 فنجاناً و12 بكرج قهوة، مما يبين بوضوح أنها شكلت جزءاً أساسياً فى أدوات البيت الضرورية.