اللغة والهوية: المملوك وظاهرة الاحتواء اللغوي والثقافي

اللغة والهوية: المملوك وظاهرة الاحتواء اللغوي والثقافي

د. ناصر أحمد إبراهيم

الصورة: مراد بك بريشة الفنان الفرنسي أندريه دوترتر

تتناول هذه المقالات دراسة مصدر جديد لتاريخ المماليك في مصر، وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من «جوابات المماليك»، تعود إلى عام 1800 / 1801؛ أي أنها تغطى جزءاً أساسياً من فترة الحملة الفرنسية وتكشف علاقة الفرنسيين بالمماليك والمجتمع في تلك الفترة.

وتركز الدراسة علـى «جوابات مراد بك» لقادة الحملة الفرنسية، بصفتها مصدر أدبي يمكن أن يمدنا بمعطى جديد حول فكرة المملوك، يساعدنا في كشف أبعاد الهوية المملوكية وما اكتنفها من غموض، وتفسر في الآن نفسه ظاهرة الاحتواء أو الاستيعاب الثقافي للمملوك في المجتمع المصري بوصفه مجتمعاً حاضناً لهم. 

توقفنا في المقال السابق عند مقاربات الباحثين المختلفة في محاولة تحليل وضعية المماليك كطبقة اجتماعية داخل المجتمع المصري، ونتوقف في هذه المقالة عند دلالة لجوء البكوات المماليك إلى كتابة «الجوابات» باللغة العربية؟.


للوهلة الأولى تقفز إلى الذهن بعض التساؤلات: ما هي دلالة لجوء البكوات المماليك في مجموعة مراد بك إلى كتابة الجوابات باللغة العربية؟ وهل يعد ذلك تحولا نوعياً في ثقافة وهوية المملوك أم جاء نتيجة تطور ممتد يضرب بجذوره فى فترات سابقة إلى ما قبل القرن الثامن عشر؟ فما الذي يمكن للجوابات أن تقدمه من معطيات جديدة حول هذه المسألة المحورية فى فهم تحولات الهوية المملوكية.

الواقع أن قراءة الجوابات تقودنا إلى ملاحظتين؛ الأولى، أن الجوابات لم تكتب باللغة العربية فحسب، وإنما بالمستوى الكتابي الذى اصطلحت جماعة اللغويين على تسميته باللغة الوسيطة (Middle Arabic)، وهو مستوى من الكتابة يتم فيه المزج بين عناصر من الفصحى والعامية معاً، ويعتمد تراكيب أسلوبية ومفردات بعينها شائعة الاستخدام فى الحياة اليومية عند العوام. والملاحظة الثانية فى الجوابات أنها أبانت – غير مرة – عن تصريح البكوات المماليك بجهلهم معرفة اللغة التركية! ومعروف أن أستاذهم على بك الكبير نفسه (الشركسي الأصل)، بالرغم من أنه كان يقرأ ويكتب، ويجيد قراءة وتفحص الصكوك ذات “الخطوط السقيمة” على حد قول الجبرتى، إلا أنه كان يستعين فى المكاتبات والردود التركية بـ” كاتب رومى” يدعى مصطفى أفندى الأشقر وكذلك بمنجمه نعمان أفندى. 

الترجمان التركي يرافق المماليك ولأهميته يحصل على لقب بك

يبدو أن دور الترجمان التركي المصاحب للبكوات المماليك صار أساسياً ليس عند جيل مماليك أواخر القرن فحسب، بل أيضاً وربما بصورة أقل كثافة عند نظرائهم فى النصف الأول من القرن الثامن عشر؛ فابن عبد الغنى على سبيل المثال يكتب عن الأمير اسماعيل بك بن ايواظ (نحو عام 1723) أنه كان سعيداً جداً لاستعانته بمترجم (يدعى “علي” من اتباع حسن بك كتخدا النجدلي)، يكتب بمهارة جميع “جواباته تركية كانت أم عربية” وهذا المترجم الذي تداخل فى الطبقة المملوكية من خلال معرفته باللسان التركي، حصل على لقب بك ونال وظيفة مهمة مدرة للثروة؛ حيث عُينَ فى منصب ” أمين الشون”، وصار يلقب بعلى بك أمين الشون. إن سيرة ابراهيم السناري نموذج آخر يؤكد أهمية معرفة اللغة التركية كسبب للحراك الاجتماعي والتداخل بين جماعة النخبة المملوكية، ويكتسب أهمية خاصة؛ كونه عمل فى خدمة الأمير مراد بك صاحب الجوابات التي ندرسها هنا: ففى حالة إبراهيم السناري، يخبرنا الجبرتى أن تعلمه للغة التركية كانت سبباً فى قيام مراد بك باستخدامه فى كتابة مراسلاته وقضاياه، ووصل الأمر إلى أن جعله كتخداه؛ أى نائبا عنه، حيث رخص له التحدث باسمه، بما فى ذلك مع نظرائه من كبار بكوات المماليك، بمن فيهم ابراهيم بك الكبير نفسه (قسيمه فى السلطة)!، والجبرتى يقول إن ابراهيم السناري حقق من وراء ذلك ثروة كبيرة جعلته “من أرباب الوجاهات والثروات” ما يبين إلى أى حد لعبت إجادة اللغة التركية فى تلك الفترة دوراً مهماً لكثير من الشخصيات العادية، كيما تأخذ طريقها إلى مزاحمة النخبة الاجتماعية المتربعة على قمة المجتمع. 

تراجع اللغة التركية بين المماليك

لقد بدا أن إجادة المماليك للغة التركية ليست منتشرة بشكل ملحوظ فيما بينهم، كما أن العدد المحدود الذي كان يمكنه التحدث أو الكتابة بها كان لا يعرفها بطريقة كافية أو بالطريقة المعيارية الفصيحة، وهو ما ظهر أحياناً فى سخرية الباشوات الأتراك؛ فنحو عام 1786، إبان حملة القبودان حسن باشا الجزايرلي، امتعض أحد الباشوات المرافقين للأخير من خطاب رفعه الأمراء المماليك من جماعتى مراد بك وابراهيم بك باللغة التركية (1786)؛ إذ هاله ركاكة الأسلوب الذي كُتِبَ به الجواب، ووصف الكاتب “بالجهل بصناعة الإنشاء”!، وربما يفسر ذلك توقف الجبرتى فى تراجمه عند كل من كان يتمتع بمعرفة “اللسان التركي”، سواء من بين المماليك أو من غيرهم؛ إذ فيما يبدو اعتبر هذا أحد إمارات الفرادة والتميز التي يتعين تسجيلها عند التعريف بشخصية المترجم، ويشير إليه عادة بقوله “مهر فى اللغة التركية”. ولعل هذه الندرة النسبية فى ممارسة اللسان التركي هي ما استرعت انتباه بونابرت زمن الحملة، فيستغلها سياسياً فى تبرير سقوط شرعية العثمانيين فى حكم مصر: فنجده يشير في أحد أوامره اليومية إلى ما نصه:” إنه ليتعارض مع القرآن أن يأتي العثمانيون من القسطنطينية (استانبول) لإدارة العدالة لقوم لا يفهمون لغتهم”، وفى وثيقة أخرى ذكر صراحة:” إن اللغة التركية هي لغة أجنبية بالنسبة للأهالى، فهي تماماً مثل اللغة الفرنسية”!                                         

ابتعاد المماليك عن ثقافة المركز العثماني

هاتان الملاحظتان (كتابة الجوابات باللغة العربية شبه العامية / فى مقابل الجهل النسبي باللغة التركية) تشكلان انطباعاً بحدوث تطور ما، مَسَّ بدرجة عميقة مكون الهوية الثقافية لجيل أو أكثر من أمراء المماليك؛ حيث بدت ثقافتهم محلية بدرجة كبيرة وبعيدة عن ثقافة المركز العثماني، وهو ما يُغاير الوضعية الثقافية التي كان عليها حال نظرائهم من مماليك القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ الذين كانوا بالرغم من خلفياتهم الثقافية المختلفة، يجيدون بدرجات متباينة التحدث باللغة التركية والقراءة بها، وهو ما يُظهره اقتنائهم للكتب التركية المسجلة فى تركات العسكر، كما كانوا يحتفظون إلى جانب ذلك بلغتهم الأم القوقازية (بلهجاتها المختلفة) أو بغيرها، وقلة منهم كانت تعرف اللغة العربية، وتستعين عادة بالمترجمين العارفين باللسان التركي، فيما انقلب الوضع فى الربع الأخير من القرن السابع عشر إلى غلبة التحدث بالعربية والكتابة بها بشكل أساسي، وهو ما تؤكده المصادر التي وصلتنا عن هذه الفترة. 

بيد أنه يتعين أن نضع فى الاعتبار أن إجادة المملوك بهذه الصورة الملفتة للنظر التي تظهرها الجوابات، فى التعبير عن نفسه وأفكاره باللغة العربية، واستخداماته المكثفة لمفردات وأساليب شائعة فى قاموس العامة، لم يأت صدفة، كما لم يمثل ظاهرة مفاجئة بالقدر نفسه؛ وإنما نرى أن ذلك جاء معبراً عن نهاية مرحلة من التطور الثقافي لجماعة النخبة المحتكرة للسلطة لفترات متراكمة من الزمن، وهو تطور طويل الأجل، يضرب بجذوره حتى قبل مجىء العثمانيين أنفسهم للمنطقة. 

إشادة بالسلطان الذي يجيد العربية مقابل «الأغْتَم» الذي لا يجيدها

أجل، كان سلاطين المماليك (1250 -1517)، كما تُظهر ذلك بوضوح دراسة حديثة أجراها خالد يوسف، يعرفون العربية إلى جانب التركية القِبجَاقية(١)، والبعض الآخر منهم كانوا يجهلون العربية تماماً، فيما كان آخرون يجهلون التحدث باللغتين العربية والتركية معاً، ولا يتحدث سوى بلغته الأم كاللغة الجركسية مثلاً، لكن ذلك جعل العديد من سلاطين هذه الحقبة يعتمدون فى التواصل مع المجتمع من خلال المترجمين، وهو ما مثَّل فى كثير من الأحيان أحد معوقات التواصل. وكان السلطان الذى لا يجيد التحدث بالعربية بشكل مفهوم، يجري وصفه بــ ” الاغْتَم “. وهو وصف لا يخلو من دلالة احتجاج أدبي، ولذا كان يستوقفهم السطان الذي يعرف العربية، فيشيدون به بشكل خاص. والواقع أنه ما بين شجر الدر (مبتدأعصر سلاطين المماليك) والتي كانت تجيد كتابة جواباتها باللغة العربية الدارجة، وقانصوه الغوري (آخرة سلاطين المماليك)، الذى كان يقرض الشعر باللغتين العربية والتركية، مسافة زمنية طويلة، أظهرت مباينات فى الخلفيات الثقافية للسلاطين المماليك، ولو أن هذه المسألة لا تزال فى حاجة الى استكشاف لظروفها المعقدة ودلالات تطورها بالنسبة لإشكالية التواصل مع المجتمع المصري الذى حكموه على مدار قرنين ونصف القرن. 

(١)القِبجَاق من أشهر القبائل التركية التي كانت تقطن بصحاري وسهول أواسط آسيا لتركية القبجاقية هي لغة الجيش والبلاط المملوكي، بينما ظلت العربية لغة العلم والمخاطبات الرسمية.


أحد جوابات مراد بك

في المقال القادم سنتوقف عند العوامل التي أدت إلى الاحتواء الثقافي للماليك في المجتمع المحلي.


المقالات السابقة


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s