اللوحة: الفنان الروسي أوسيب إيمانويلوفيتش براز
أثناء حياتي مع زوجي الأول، كانت تأتيني نوبات مريعة من المغص والتقيؤ وكنتُ أُحجز كثيرًا داخل المستشفيات دون أن يعرف الأطباء ما بي وكان هذا يحدث دائمًا بعد خروجنا من أحد المطاعم الفاخرة أو بعد تناول وجبات الديلفري. تلك الحياة المرفهة التي لم تعطني فرصة لملء وجودي، الحياة التي تركتني خفيفة وفارغة إلى الدرجة التي لا أستطيع معها هضم الطعام وتمثله أو هضم الأحباء وتمثلهم لملء كياني الشخصي وكأنني كنت مصابة بعسر هضم نفسي تجسد فيما حدث لي من مغص وتقيؤ مستمرين.
دلالة التقيؤ في الطب النفسي هي الرفض، هل كان تقيؤي تعبيرا لا شعوريا عن رفضي لحياتي الزوجية؟ ربما.. لكن المؤكد أنني لم انتبه وقتها لكل هذا، ولم أعبر صراحة عنه. ربما لأن الصورة المثالية التي عشتها عن الحب، أعمتني عن رؤية جوعي العاطفي. يمكن للإنسان أن يعيش طويلاً في تصور أنه يحب، فيما داخله يعوي من الجوع العاطفي.
كذلك التقيؤ الإرادي (البوليميا) هو نوع من الرفض أيضًا. يأكل المريض معه بشراهة، ثم يشعر بذنب شديد بعد ذلك فيضع إصبعه في حلقه ليفرغ معدته من الطعام، وليست الأسباب الظاهرة لذلك، الإحساس بالذنب، كالخوف من السمنة مثلًا هي الأسباب الحقيقية، هناك أسباب لا واعية، أكثر عمقًا وأشد تأثيرًا، تلك الأسباب تكمن في عدم قدرة المريض على الدخول في علاقات حقيقية مع الأحباء والشركاء، عدم القدرة على هضمهم وتمثلهم لصيروا جزءًا من كيانه الشخصي. هناك حالات لنساء يشكين من التقيؤ بعد ممارسة الجنس مع أزواجهن، وهذا أيضًا تعبير لا شعوري عن رفض لهذه العلاقة، ولكنه في نفس الوقت يزيد من جوعهن العاطفي، فيعدن إلى العلاقة بلهفة، ثم يتقيئن من جديد.. وهكذا يدرن في دائرة لانهاية لها من العذاب. إنه نفس عذاب الوجود الخفيف الذي تحدثت عنه. الذي ليس لدية قدرة على الحب، ولا على هضم وتمثل الآخرين. فيفقد القدرة على الائتناس بهم، ويظل وجوده خفيفًا وفارغًا ومرتعبًا.
وبرغم كل ما ذكرته عن العلاقة بين الطعام وبين الحب، إلاَّ أن المسألة لا تكتمل أبدًا إلاَّ بالقدرة على إعداد ذلك الطعام، التي هي قدرة على الحياة في حد ذاتها.
جاءتني مشكلة في برنامجي (على ضفاف الحياة) لأحد الأزواج. كان يقوم بكل شيء بالنيابة عن زوجته، كانت الزوجة لا تستطيع حتى أن ترفع سماعة التليفون لتطلب الديلفري، لا تقوى نفسيًا على ذلك وكانت تتصل بالزوج في مكان عمله ليقوم هو بهذا، لم يشكُ الزوج من هذا، بل من عصبيتها الشديدة وانهيارها التام أمام أي حدث تافه. كان طفلها إذا أتى من المدرسة بشهادته التي تنقص درجتين أو ثلاثة في إحدى مواد الامتحان، تصرخ فيه وتتشنج حتى تقع على الأرض. حكى لي الزوج عن انقباضه الشديد عند دخوله البيت وكيف كان يراه باردًا وخاويًا، ليس به سمة من سمات الحياة.
هذا الزمن الذي نعيشه والذي تغيرت فيه عاداتنا اعتماداً على الاختراعات وسبل المعيشة الحديثة يمعن في إفراغ وجودنا حيث لا وجود حقيقي وزاخر إلاَّ باحتمال أعبائه بما فيها مسئوليتنا عن إطعام أنفسنا، لقد خف وجود تلك الزوجة إلى الدرجة التي كانت لا تستطيع معها استقبال أي حدث تافه حتى لو كان ذلك حتى لو كان ذلك الحدث نقصان طفلها درجة أو اثنتين في امتحانه.
بعد طلاقي من زوجي الأول، لم أجد في نفسي طاقة على الذهاب إلى السوق، أو إعداد الطعام. بدا البيت خاوياً وباردًا حتى أن هذا البرد كان يندق في عروقي ليلاً فأنام وأنا أرتجف. ذات مرة فتحت كراسة ابنتي، وقرأت هذا: “حفتح الشبابيك وارش ريحة الطبيخ في كل حتة”. عندما سألتها من كتب هذا؟ قالت: أنا.
ربما فرحت لأنها كبرت بما يكفي لتعبر عن نفسها بالشعر، ولكني، في نفس الوقت، انتبهت إلى جوعها العاطفي، الذي عبرت عنه برغبتها في فتح الشبابيك، ورش رائحة الطبيخ في البيت.
لا يبقى في ذاكرتي الآن من بيت الطفولة سوى التحلق أنا وإخوتي حول أمي وأبي في المطبخ. هو ينظف السمك، وهي تقشر الثوم وتغسل الخضروات لعمل السلطة ثم يأتي دور القلي. الزيت المقدوح وطشَّة السمك بداخله، ثم رائحته التي تدق أنفي وتلهب جوعي، انتظار الأرز الأبيض حتى يتم طهوه، ورائحته المحببة التي تؤذن باقتراب موعد الغداء، تحلُقنا حول الطبلية، وأمي تروح وتجئ لوضع الأطباق، وحديث أبي عن نوع السمك الذي نأكله، وكيف يعيش في البحر؟ وماذا يأكل؟ وما فائدة تلك الخياشيم؟ وهكذا وهكذا..
كان أبي يوزع السمك بالتساوي وأنا أنظر إلى أطباق إخوتي وهم ينظرون إلى طبقي. لحظة زاخرة بالحياة، فيها من الترقب والانتظار، ومن الروائح التي تفتِّح الحواس، من المعرفة والخيال حول الأسرار البحرية وصولاً إلى المعاني المُجَرَّدة عن الحب والمساواة والعدل لحظة اقتسام السمك فيما بيننا. هكذا تكمن الحياة في التفاصيل الصغيرة لوجبة طعام، فكيف ـ يا أبي ـ يستطيع ورق الشجر أن يفعل كل هذا؟ ماذا كنت سأحمل من ذكريات إذا انطلق كل منا يبحث عن شجرة ليقضم أوراقها؟
أعرف يا أبي لماذا تمنيت هذا التصور.. كنت تشفق دائماً على أمي التي لم تقو أبدًا على إعداد الطعام لنا بشكل منتظم، كانت تجد في ذلك مشقة كبيرة لذلك أعرف أن البيوت التي بلا روائح طعام، بيوت صامتة وباردة، يندلق خواؤها في أرواح ساكنيها.
كنت أحسد زميلاتى واللاتي أعرف أنهن فقيرات، لأنهن يعدن من المدرسة ليجدن الطبيخ في انتظارهن.. ذهبت مرة مع إحداهن ووضعت لنا أمها طبقًا ساخنًا من اللوبيا، ليس به قطع من اللحم، وضعت لنا معه أرغفة طازجة وأكلت معها، وأقسم أنني ظللت أتذكر تلك اللحظة بكل ما زخرت به من دفء وونس .. على فكرة.. الطبيخ أيضا يملأ الخواء، بالطبيخ يمتلئ وجودك.
كانت ابنتي صادقة في مشاعرها، عندما رأت أن رائحة الطبيخ.. رائحة الحياة.