«سياحتنامة مصر».. قراءة نقدية لأبعاد الخطاب العثماني

«سياحتنامة مصر».. قراءة نقدية لأبعاد الخطاب العثماني

د. ناصر أحمد إبراهيم

اللوحة: الفنان الإنجليزي فريدريك جودال – انجليزي

تحاول هذه الدراسة الكشف عن أبعاد الخطاب العثماني وأهم ملامحه في المجلد العاشر من كتاب “سياحتنامة مصر” الذي كتبه الرحالة التركي الشهير أوليا جلبي (١٦١١-١٦٨٢)؛ واضعاً به خلاصة خبرته بأدب الرحلة والترحال في عالم الامبراطورية العثمانية، حيث أنفق من عمره قرابة نصف قرن (١٦٣٠ – 1680) قضاها بين السياحة والترحال وسجل تجربته السياحية والأدبية في كتاب من عشرة مجلدات ضخمة، حملت عنوان “سياحتنامة”. والحقيقة أن السفر والكتابة عن رحلاته مثَّلا الهدف الرئيس لحياته كلها. استوقفته مصر طويلاً لتمثل المحطة الأخيرة في رحلاته (بين عامي 1672 -1680)؛ حيث أنكب على اكتشافها ومعرفة أحوالها، عبر فضاء الأمكنة وحركة البشر ورصد عادات وتقاليد وممارسات ثقافية في حقول جد متنوعة؛ كالدين والتصوف والسياسة والأدب والآثار، وما تعلق بأدب الحكايات والغرائب والعجائب التي سمعها وآمن بها وراق له تسجيلها في مدوناته. 

تروم هذه الدراسة تقديم قراءة نقدية لنصوص المجلد العاشر “سياحتنامة مصر” الذي يعنينا هنا دراسته بشكل خاص؛ بحثاً عن الصورة التي رسمها لحقيقة ما تمثله مصر والمصريين في الذهنية العثمانية. وقد لاحظت بعض الدراسات الحديثة أن غالبية كُتَّاب القرن السابع عشر، بمن في ذلك كُتّاب الأخبار، كانوا يكتفون باتباع التقاليد السابقة في الكتابة عن الدولة العثمانية ككيان قوي لا يمس، وذلك انطلاقاً من فكرة “مركزية استانبول العاصمة ” التي تحكم عالماً متسع الأرجاء، كما تتضمن مفهوم أن الدولة العثمانية نفسها تجسد بنيان امبراطورية قوية غير مسبوقة في التاريخ؛ ووفقاً لهذا المنظور كان لا يُسمح للكُتَّاب – نظرياً – بتجاوز فكرة ” الدولة العلية “؛ فالدولة ليست محلاً للتساؤل أو التفكير في نقد سياستها أو تراجع مستوى قوتها الضاربة؛ وهو ما يتطلب بطريقة أو بأخرى، عدم الإعلاء من شأن الآخر (التابع) أو حتى الإطراء على انجازات حضارية ما، حققها الخصم أو العدو الواقع خارج حدود الدولة. هذه الأفكار النظرية شكلت في المجمل إطاراً محدداً أمام الكُتَّاب العثمانيين للحيلولة دون الخوض في طرح أية مراجعات حول هذه المسألة.

رؤية فردية أم عثمانية

السؤال الإشكالي هنا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أوليا جلبي كان يمثل شريحة معينة في النخبة المثقفة المنتمية للبلاط العثماني: فإلى أي حد تأثر صاحبنا بهذا المنظور السائد بين كُتـّاب القرن السابع عشر، وما درجة انعكاس مثل هذه الأفكار على صياغته لنص “سياحتنامة مصر”؟ إن طرح هذا السؤال يقودنا في الحقيقة إلى محاولة فهم ما إذا كان أوليا جلبي قد بنى تصوره عن مصر وحياة أهلها انطلاقاً من رؤيته الفردية كمراقب لواقع عاينه بنفسه لسنوات طوال، متجاوزاً تلك الضوابط الشائعة لدى النخبة العثمانية أم أن الرؤية الرسمية بحدودها وثوابتها قد فرضت نفسها عليه، ولم يستطع هو الفكاك من أسارها، فبدت كتابته معبرة عن التزام واضح بهذا الإطار المقيد نظرياً وبالأفكار التي يجري الترويج لها بطريقة أو بأخرى؟ أم أن كتابه، في الأخير، جاء ترجمةً لمقاربة من نوع خاص، جمعت بمستويات مختلفة بين التعبير بحرية تامة عن تجربة هذا الرحالة ورؤيته الواقعية، وبين الالتزام المقيد بالمنظور الرسمي للدولة العلية؟ بعبارة موجزة هل سياحتنامة مصر تمت صياغته كنص وصفي ينتمي إلى التقارير الواقعية المنطلقة من “خطاب الحقيقة” أم حمل في مضمونه “خطاباً عثمانياً” له أبعاد معينة وسمات واضحة؟ وهذا هو السؤال الرئيس لهذه الدراسة.

نص تقريري

استغرقت رحلة أوليا جلبي بمصر قرابة عقد من الزمان (1672 -1680)، وكانت مصر نهاية أسفاره وخاتمة حياته؛ حيث توفي بعد اتمام رحلته بها، في عام 1682. وإذا كانت أسفاره، عبر ثلاثٍ وعشرين دولة، داخل حدود الدولة العثمانية وخارجها، قد استُوعِبَت في عشرة مجلدات، فإن مما له دلالته ومغزاه تخصيصه لمصر – وحدها – مجلداً كاملاً تجاوز الألف صفحة، هو المجلد العاشر من هذه الموسوعة التي تعد أهم مصادر أدب الرحلات على مستوى الحقبة العثمانية كلها. وليس ثمة مبالغة بالقياس إلى ما تضمنه المجلد العاشر من تفاصيل ثرية، طالت أنماطاً مختلفة من حركة الحياة الثقافية والاجتماعية في مصر في القرن السابع عشر، أن يكون هذا المصدر موضوعاً للمقاربة مع ما رصدته بعد قرن ونصف القرن ريشة المستشرق الانجليزي، إدوارد وليم لين، في كتابه الكلاسيكي الشهير “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم” (المنشور في عام 1836)؛ والذي نال اهتماماً ملحوظاً بدراسته ونقده، فضلاً عن استخدامه على نطاق واسع داخل أوساط الأكاديميين المتخصصين وخارجها، في حين لم يحظ نظيره “سياحتنامة مصر” بذات المقاربة والاهتمام.

وعلاوة على ذلك ينطوي كتاب “سياحتنامة مصر”، كمصدر أدبي، على أهمية خاصة، وربما استثنائية؛ ففي الحقيقة لم يصلنا من أدبيات الرحلة (العثمانية) سوى القليل، وذلك مقاربة بالرحلات التي قام بها رحالة مسلمون من كل مكان من خارج المركز العثماني أو رحلات نظرائهم الأوربيين العصية على الحصر. وبرغم أهمية رحلة أوليا جلبي وما فاقت به غيرها إلا أنه لم يكن أول رحالة عثماني شق طريقه إلى مصر؛ فقد سبقه الرحالة مصطفي علي (1541 – 1600) الذي زار مصر المحروسة مرتين، الأولى في عام 1568، والثانية في عام 1599، ووضع خلاصة ملاحظاته وتعليقاته في كتابه تحت عنوان “حالات القاهرة من العادات الظاهرة “؛ وبعد أن وضع أوليا جلبي كتابه سياحتنامة في مطلع ثمانينيات القرن السابع عشر، انقطع تقريباً مجيء الرحالة العثمانيين المهتمين بأدب الرحلة ووصف مصر، لمدة قرنين؛ حتى نشر خالد ضياء الدين تقريره عن رحلته إلى مصر وذكرياته المصورة فيها نحو عام 1909؛ مستخدماً آلة التصوير الحديثة؛ حيث أفسح للصورة الفوتوغرافية مساحة أكبر من التحليل الوصفي المعتاد. ولعل إجراء أي مقاربة بين نصوص تلك الأدبيات التي خلَّفها الرحالة العثمانيون القلائل، تظهر تفوق نص كتاب سياحتنامة مصر وتميزه؛ سواء على مستوى الرصد والتفاصيل أو من ناحية شمولية المعلومات وغناها، والتي بلورت صورة دينامية، اتسمت بقدر واسع من التنوع والثراء لطبيعة الحياة في قاهرة مصر المحروسة. 

إقامته الطويلة في مصر

من المؤكد أن طول المدة الزمنية التي قضاها أوليا جلبي بالقاهرة كان لها انعكاسها في تفوق هذا الرحالة على نفسه؛ فقد وفرت له الوقت الكافي للتعرف على مساحات عريضة من الثقافة السائدة وتأملها، والاقتراب من ملامسة أفكار وسلوكيات مجموعات اجتماعية متباينة من شرائح المجتمع المصري؛ وتحليل بعض ممارستها، سواء المرتبطة بالدين والتصوف، أو بقيم ثقافية متجذرة في الواقع الاجتماعي. كما منحته مدة إقامته الفرصة لبناء عمله بطريقة متماسكة، عبرت عن فكره واعتقاداته أكثر من تقديمها صورة لواقع مصر كما عاينها، علاوة على انتاج تفسيرات معينة وطرح بعض الآراء والانتقادات المختلفة. 

وبالمقاربة ليس ثمة من تمتع بإقامة طويلة بالقاهرة، من بين رحالة القرن السابع عشر على الأقل، مثلما توافر لأوليا جلبي: فالرحالة الأوربيون، على سبيل المثال، كانت مدة رحلتهم إلى مصر، في الغالب، ما تستغرق بضعة شهور أو عام، وقلما استغرقت الزيارة عدة أعوام متصلة. وثمة رحلات عديدة تزامنت مع فترة وجود أوليا جلبي بالقاهرة خلال عقد السبعينيات، وبداهة تباينت في أهميتها وزوايا الرؤية ونوعية الخطاب (الاستشراقي) وطريقة وعمق التفسيرات المطروحة بها، ومن حسن الحظ أن عدداً منها وجد طريقه للنشر، منها على سبيل المثال تقرير الرحالة الألماني جوفي ميكيله فانسليب (1672)، وتقرير الطبيب الإنجليزي ” إدوارد براون ” Edward Brown (طبيب الملك شارل الثاني ورئيس مجلس الأطباء بلندن) الذي زار مصر وقضى بها عامين كاملين (بين يناير 1673 وديسمبر 1674 ) وقرب نهاية فترة أوليا جلبي جاء إلى مصر الرحالة “إليس فيريارد” Ellis Veryard (عام 1678). وتمثل هذه الكتابات الأدبية، في مجملها، مصدراً للتاريخ الثقافي والسياسي لمصر، خلال حقبة السبعينيات نفسها. 

ما رأى وما سمع

بيد أن ما ميز نص سياحتنامة مصر، بالمقاربة مع تلك الأدبيات، ليس حجم التقرير المطول، على أهميته، ولا غزارة المعلومات ودقة التفاصيل الواقعية أو حتى ما تجاوز منها حدود الواقع؛ وإنما ما طرحته ذهنيته من تفسيرات وتصورات اتسمت بالبعد الشعبي، وهو ما أضفي عليها مذاقاً خاصاً؛ إذ اتسمت، في كثير من مواضعها، بمسحة أسطورية؛ جراء اعتماده على كثير من الحكايات الشفاهية السائدة؛ ورصده الحكايات المختبئة في ذاكرة المصريين، وما خالطها من خرافات وغرائب ونوادر، حرص على استقصاء رواياتها وتسجيلها كما سمعها، وتهيئة إدراجها في نسيج مدوناته، لتأخذ موضعها في السياق التاريخي، وهو ما جعل نص كتابه يُشكل بالفعل أحد مصادر التاريخ الثقافي لمصر القرن الـ 17م من “منظور شعبي”. 

ثروة من التفاصيل

لما كان أوليا جلبي قد حل بمصر برعاية من السلطة المركزية، فضلا عن صلاته الوطيدة بالنخبة المتصلة بالقصر السلطاني؛ حيث كان أبوه يشغل منصب رئيس صاغة القصر، فضلاً عن تكليفه ببعض المهمات الرسمية الخاصة، خلال ترحاله بين مصر وبلاد السودان والحبشة؛ فقد مكنه ذلك على ما يبدو من الحصول على عدة تسهيلات، ربما لم تتيسر لغيره، وأهمها بالطبع تذليل اطلاعه على الدفاتر والسجلات الديوانية الأصلية، ينقل منها ما يشاء، حيث مكَّنه ذلك من تدعيم معلوماته بسيل من البيانات المهمة، التي يعد هو أول من استخدمها بشكل مكثف في عمل أدبي؛ والتي يصعب الحصول على معظمها في مصادر تاريخية مشابهة، ما جعل نص كتابه يتجاوز، بكل تأكيد، حدود “أدب الرحلة العابر” الذي لمسناه على سبيل المثال عند كل من نظيريه، السابق عليه مصطفي على أو اللاحق له خالد ضياء الدين. لقد ضَمَّن أوليا جلبي كتابه ثروة من التفاصيل وعدداً كبيراً من البيانات الإحصائية، إلى جانب تعليقاته المتلاحقة، التي لم يتردد في كتابتها؛ إزاء كل ما أثار انتقاداته المختلفة، والتي تحولت بالفعل إلى جزء مهم في نسيج النص، ليتجاوز مرة أخرى دوره كمراقب مدقق إلى لعب دور شبيه بالمراقب النقدي.

وعلى ذلك فنحن أمام نمط أقرب إلى الكتابة التقريرية الممزوجة بالتفسيرات الشعبية ورصد الوقائع والتفاصيل الدقيقة عن كل شيء يمكن للمرء أن يصادفه، أو يثير انتقاداته هنا أو هناك. ومن دون شك إن تجميع تلك الانتقادات والتعليقات المختلفة، وتحليلها في سياقاتها المختلفة، يمكن أن يكشف عن شخصية الراوي (صاحب الرحلة) وتحديد بعض مواقفه وتمثلاته العاكسة لأفكاره الخاصة، والتي نحاول هنا ربطها بالسؤال المحوري المطروح آنفاً حول ما تعنيه مصر والمصريين في مخيلته بصفة خاصة، وما تمثله لدى نخبة المثقفين العثمانيين على وجه العموم؛ وهذه هي أحد الرهانات الأساسية في هذه الدراسة.


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s