اللوحة: الفنان الأسكتلندي ديفيد روبرتس
بعد أكثر من ثلاثة عقود من الترحال، قرر أوليا جلبي زيارة مصر في أعقاب أدائه لفريضة الحج، وقد كان عازماً على ذلك منذ خروجه من إستانبول؛ فما إن انتهى من أداء الشعائر حتى التحق بركب قافلة الحج المصري؛ وحُمّلَ برسائل خاصة ليسلمها إلى والي مصر إبراهيم باشا. ولدى وصول قافلة الحج المصري إلى العادلية، عند مدخل القاهرة، كان وزير مصر في استقبال القافلة، والتقى بأوليا جلبي ضمن من التقى بهم من “الخاصة الكبار”، وأحسن استقبال أوليا جلبي وتكريمه بشكل خاص؛ باعتباره من “خاصة البلاط العثماني”، وظهر ذلك جلياً مما أبداه هذا الوزير من رعاية وحفاوة بأوليا جلبي: فقد عهد ابراهيم باشا إلى مجموعة الأغوات من خاصته باصطحابه، وجعله في خيمة مجاورة لخيمته حتى دخوله القاهرة، كما وفر له كامل احتياجاته الأساسية، وزوده بمبالغ مالية معتبره، وسُمِحَ له بالتردد على ديوان مجلسه الخاص حتى بات معروفاً لدى الكثيرين بأنه “من طبقة الندماء الخواص”. إن دلالة تفاصيل مجيئه إلى مصر والاحتفاء به على هذا النحو، إنما تتمثل في اقترابه من دائرة السلطة، وتداخله مع كبار المسئولين، وهو أمر ساعده – فيما بعد – على الالتقاء بكبار موظفي المالية والشئون الإدارية الذين سوف يشكلون بالنسبة إليه مصدراً مهماً لكثير من المعلومات.
الرحالة الذي أقام 8 سنوات
لم يكن أوليا جلبي عازماً على البقاء في مصر لثماني سنوات؛ وهي أطول مدة قضاها في زيارة لولاية واحدة من الولايات التابعة للدولة العثمانية؛ لكن فيما يبدو كانت حالة مصر نفسها، والظرف التاريخي المتعلق بعملية الإصلاح المالي والإداري، وأهمية هذا الظرف نفسه بالنسبة إلى إستانبول المتطلعة إلى الإلمام بدقائق الأمور، وما يجري من تطورات، شكلت دافعيته للبقاء والمتابعة؛ من أجل كشف مسار الأحداث وتعقيداتها في الولاية المصرية. علاوة على تجشمه عناء البحث والاصطدام ببعض الصعوبات المتعلقة بفهم الطبيعة المعقدة للنظام المالي وما يكتنفه من غموض؛ مما اقتضي منه ضرورة إنفاق كل تلك السنوات في سبيل تدقيق مصادر معلوماته؛ فقد كان من أولى أهدافه، ولا ريب، جعل تقريره عن الرحلة مصدراً معرفياً يمكن للمسئولين في إستانبول الوثوق به والاعتماد عليه. ولذا نجده في كثير من المواضع يخاطب السلطان العثماني تارة، وتارة أخرى يوجه نصائحه لكبار المسؤولين وللوزراء الباشوات الذين يجرى تكليفهم بولاية مصر.
رصد التطورات السياسية في مصر
كان أوليا جلبي قد تابع عن كثب، بحكم قربه من صناع القرار بإستانبول، مدى الترحاب الذي استُقبِلَت به اصلاحات إبراهيم باشا، وخاصة أنه تمكن من معالجة الخلل في الموازنة، وحقق فائضاً نوعياً، غير مسبوق، لصالح الخزينة السلطانية، التي كانت مهددة في السابق بتراجع عائداتها، فأمكنه معالجة الخلل، وزيادة وارداتها، التي تضاعفت بفضل ترتيباته من 15 مليون بارة إلى 30 مليون بارة! وكان قد أرسل تلك الأموال مشفوعة ببعض التقارير والملخصات التي اهتمت بها الإدارة أيما اهتمام. ولم يغب عن ذهنية أوليا جلبي دلالة هذه التجربة الاصلاحية التي ما فتأ يشيد بها، ويذكرها في مواضع عدة من كتابه، وهو بصدد رصد التطورات المتلاحقة؛ حيث أدرك أوليا جلبي أنه بصدد لحظة استثنائية تزيد من أهمية ما يرصده بشأنها: فقد لاحظ تحرك كبار قادة العسكر في اتجاه إعاقة مسار عملية الاصلاح، بعد رحيل الوزير ابراهيم باشا، بل وتهديد استمراريتها ككل؛ فقد قام هؤلاء القادة بممارسة ضغوطهم على الباشوات الذين توالوا على حكم مصر، طيلة عقد السبعينيات، وأعاقوا جهودهم في المضي في تنفيذ الإصلاح؛ ونجحوا من جديد في استئصال ما يقرب من سبعة ملايين من إجمالي عائد الخزينة، لتصب، كما في السابق، في جيوب أمراء المماليك وقادة أوجاقي الإنكشارية والعزب. وازداد الموقف خطورة وتعقيداً بعد تدبير حادثة “حرق الدفاتر الديوانية”!، والتعرض لبعض الشخصيات العاملة في الادارة المالية بالقتل لأقل شبهة أُثيرت حول تورطهم في إحاطة إستانبول بما يجري من ممارسات احتكارية أو بما يجري من إعادة تقنين لاستقطاعات مالية كبيرة، تركت آثارها سلبياً، من جديد، على عائد الخزينة السلطانية.
تقرير مالي عن خزائن مصر وثرواتها
من هنا أدرك أوليا جلبي أن القدر ساقه إلى مهمة كبيرة وشائكة، سوف تُضفي أهمية من نوع خاص على تقريره الذي يتعين أن يتجاوز فكرة الوصف التقليدي الشائع في أدب الرحلات، للأماكن والمزارات ولحركة الناس والتعريف بطبائعهم، إلى التركيز أكثر على تقديم تحقيق مالي، مطول وتفصيلي، عن خزائن مصر وثرواتها، وبما يكشف مصادر دخولها المادية المتنوعة التي عاينها بنفسه وأذهله حجم ثرائها وتنوعها. وفي هذا السياق تولدت فكرة إفراد مجلد كامل وخاص بمصر؛ حيث مثلت له هذه الولاية حالة مهمة من كل جوانبها؛ لا يمكن اختزال وصفها أو التعريف بأهميتها في عدد من الصفحات، كما هو حال غيرها من البلدان التي زارها داخل وخارج الامبراطورية: وهو يقر بأن الوقوف على أحوال مصر أمر ليس بالهين، لكنه “حرك قلمه على قدر طاقته”. ولأهمية ما يرصده من معلومات، ازداد حجم المجلد؛ برغم حرصه على أن يقدم صورة مختصرة، فقد بلغت صفحات الكتاب في الأصل التركي (الألف ومائة صفحة)، ومع ذلك اعتبر هذا المجلد “قطرة في بحر أو ذرة في الشمس”!. مصر في التحليل الأخير كانت بالنسبة له حالة معرفية ثرية محفزة للتأمل، وجديرة “بالمعرفة واﻻطلاع”. في هذا السياق تولدت لديه فكرة وضع كتاب “سياحتنامة مصر” الذي أراد أن يختم به مدونات طوافه حول العالم.
دلالة السياق الزمني في النص وعلاقته بالخطاب
يُشكل الحضور الزمني وطريقة توظيفه جزءاً مهماً من بنية نص الرحلي، وخاصة إذا ما تعمد الرحالة تقديم استخدام معين، له علاقة مباشرة أو غير مباشرة، بالخطاب والهدف النهائي من عملية الكتابة والتدوين. في كتاب سياحتنامة مصر سنجد أوليا جلبي يتجاوز الطريقة الكلاسيكية الشائعة في أدبيات الرحلة، والتي تؤطر لتحركات وتنقلات الرحالة بتواريخ محددة، وأحياناً بصورة شبه يومية؛ بقصد إبراز صاحب الرحلة أن تقريره نص يروي وقائع حقيقية، لا متخيلة، وأن النص أيضاً نتاج تدريجي لمشاهداته المادية ولعملية التدوين المؤطرة بتواريخ المعاينة والتسجيل إثر كل استقصاء. تجاوز أوليا جلبي هذا التقليد الكتابي، واختار في المقابل تركيز الزمن فى نقطة محددة تمثل حقبة السبعينيات من القرن الـ17م ككل، وفي هذا السياق تحديداً تختفي الشخصيات، ومعظم الإشارات الزمنية المقومة للحظات المشاهدة أو التي تؤرخ لتنقلات الرحالة هنا وهناك، ليحل محلها “سيرورة الحكي”، عبر التصنيفات الموضوعية، المختارة من جانبه بعناية، تعكس وجود استراتيجية في الكتابة؛ وتُظهر فى النهاية أن أمثال أوليا جلبي كان يعنيهم بالدرجة الأولى التحدث عن مصر، لا عن تحركاته هو من مكان لآخر. وهنا يمكن القول بأنه ضحى بذاته من أجل إبراز التفاصيل الهائلة، سواء التي أظهرت احترافيته في الرصد والتسجيل أو عكست ثقافته وسعة اطلاعه على المرجعيات التاريخية وتوظيفه لها، بما أثرى النص بأبعاد تاريخية وواقعية في آن. لقد آثر بقاءه خارج المشهد كمراقب: فالناس تتحرك وتقضي شواغلها وتتشابك علاقتها ومصالحها ويعلو ضجيجها هنا وهناك، وهو يراقب ويجمع المعلومات ثم يصنفها في شكل “مطالب معرفية”، ليظل يلعب دور “المراقب المدون” الساعي وراء الحقائق واستقصاء الأخبار بما في ذلك حكايات الأهالي التي كانت تفسر له بعض تساؤلاته؛ ولذا قلما وجدناه يحرص على تدقيق تحركاته الذاتية أو تقويمها بتواريخ محددة. ومن دون شك أكسبه هذا النهج مرونة كبيرة في حرية صياغة أفكاره ومدوناته، والتنقل بحرية عبر نقاط زمنية متعددة، بطريقة تراوحت بين رصد الواقع واستدعاء ذاكرة التاريخ.
مصر من نزول آدم إلى قدوم العثمانيين
وبين العمق التاريخي والسياق الزمنى للكتابة يمكننا أن نلمح حدين زمنيين بارزين، يشكلان معاً الإطار التاريخي للكتاب، لكنهما أيضاً ينطويان على دلالة ومغزى، إذ لهما علاقة مباشرة بالخطاب المتضمن في بنية النص: الحد الزمنى الأول، يبرز في تخصيصه الفصل الأول من كتابه لنزول آدم عليه السلام وبنيه أرض مصر، ليكونوا هم أول من توطنوا هذا البلد، وما وعد به الله نبيه آدم عليه السلام وذريته بأن يجعل لهم مصر بلداً خصباً، يوفر القمح والخبز بما يكفي مؤنتهم ويفيض؛ والحد الزمني الثاني يمثله قدوم العثمانيين إلى المشرق العربي؛ وحكمهم الممتد إلى زمن الرحلة نفسها؛ باعتبارها حقبة متكاملة ومستمرة، ويسيمها بـ “العهد السعيد”.
وهكذا مثل هبوط آدم عليه السلام وتوطن أولاده واستقرارهم، بداية التعريف بمصر كمجال. وإذا كانت هذه البداية التاريخية (الكلاسيكية في كتب التراث) تلعب دورها في إضاءة أولى صفحات التاريخ المصري العام، إلا أن تخطيط الفصول التالية يُنبأ عن استراتيجية واضحة المقصد؛ إذ خصصها للغزاة الذين تكالبوا على امتلاك سدة الحكم فى مصر، وحددها بأكثر من 140 غازٍ من شعوب وأمم مختلفة الأعراق والثقافات؛ رامزاً بهذه المسيرة الزمنية لمرحلة من الضعف والتخبط طويل الأجل، كانت مصر معها تنتظر – وفقاً لهذا المنظور – مَن ينتشلها من ركام تلك الأوضاع المتدهورة، وهنا تحديداً يتبلور بجلاء أهم أبعاد الخطاب العثماني، الذي تلخصه فكرة أن قدوم آل عثمان للمنطقة كان له أثر دائم، في إزالة الخراب والدمار وإقامة العدل ونشر العمران، ووصل ما انقطع فى التاريخ المصري العام. إن تغيير المياه الراكدة وإعادة بعث الحياة كانت – وفقاً لهذا المنظور – مشروطة بمجيء العثمانيين؛ وهو يسوق هذه الفكرة بصياغة الحقيقة المطلقة: “إن تملك سلاطين آل عثمان وسيطرتهم لها أثر في تقلب الأحوال وتغير الظروف فى صالح مصر وعمرانها؛ فتحول سهولها وصحاريها.. إلى قرى عامرة، آهلة بالسكان، ومزدانة بالكروم والحدائق والبساتين، وتظهر فيها أنهار وجداول، مياهها صافية، كأنها ماء الحياة، تجرى في الأرض، حتى تصب في البحر الأبيض، وبفضل همة السلطان العالي الشأن وعهده السعيد وصنيعه المحكم، سيجري النيل.. وستظهر بمصر ثلاث عيون…” إلخ.
الخطاب الاستعماري
ووفقاً لهذا المنظور مر التاريخ المصري العام بلحظتين مضيئتين؛ الأولى الموغلة في القدم المزدهرة بنتاجها الحضاري، ولحظة مجيء العثمانيين واستمرارية حكمهم (الأبدي) الذي أحدث – من وجهة النظر هذه – “القطيعة” مع ماضٍ كان مليئاً بالمظالم وحكم الطغاة، ومن ثم قدر لمصر أن تبدأ مع آل عثمان عهداً جديداً، يبشر بالعدل والاستقرار؛ ووفقاً لهذا يجري تمثيل السلطان العثماني بأنه “يمثل عدالة الله في أرضه”، كما ينعت الباشا الممثل لسلطة الدولة العلية، بصفات مختارة بعناية، وليست مرسلة؛ بأنه “باني مباني العدل، وهادم أساس الظلم والفساد، وحافظ معالم الإسلام، ناصر ضعفاء الأنام، وحامي حمى الدين والدولة، ماحي آثار الظلم والذلة”. ويعطف بقارئه في موضع آخر على نظرية الحكم عند العثمانيين، وموقع السلطان العثماني “ولى الأمر” على رأس الأمة وممثلاً لها؛ وذلك عبر التصريح “بوجوب الامتثال للأمر السلطاني”؛ لأن السلطان هو “ظل الله في أرضه”، وإطاعته “فرض وواجب” ومخالفة أوامره “مخالفة للشرع”!.
وهكذا بدا ثمة خط زمني تصاعدي بين لحظتين متباعدتين، لكن مصر (المكان والذاكرة التاريخية الممتدة) حققت الربط الدلالي بينهما: فأولاد آدم هم المنطلق التاريخي أو نقطة البداية الحقيقية لما تعنيه مصر، كمكون تاريخي قديم، يطيب لأوليا جلبي وصفه أو إدراجه تحت اصطلاح “أم الدنيا” الذي صار علماً على هذا البلد في الذاكرة التاريخية، أما “دولة آل عثمان” فهي نهاية مسيرة طويلة حققت غايتها؛ بضم مصر، كأهم ولاية عربية في الشرق الأدنى، إلى دار السلطنة القادرة وحدها على الحفاظ عليها وحمايتها.
يذكرنا هذا النوع من الأفكار عند أوليا جلبي بما سوف تروج له مدارس الاستشراق فيما بعد، خلال القرن الثامن عشر وما تلاه، والتي أخذت بعداً تجريبياً مكثفاً، مع أول اعتداء غربي في العصر الحديث، مثلته حملة جيش الشرق، بقيادة بونابرت؛ حيث تردد ذات المضمون الايديولوجي تقريباً: ففرنسا إنما اجتاحت المشرق العربي من بوابة مصر (1798)؛ وبُرِرَ الغزو كذلك بالعمل على إيقاف التدهور والخراب هناك، ومساعدة الأهالي على التخلص من نير الاستبداد وظلمات الجهل والتخلف، ومجيء الغرب ممثلاً في حملة عسكرية شرط ضروري للتخلص من الاستبداد وتحقيق السعادة والازدهار في مصر والمشرق العربي. بيد أن المفارقة النوعية هنا بين هذين الخطابين، على تقاربهما، أن الخطاب الفرنسي ضم “القرون العثمانية” نفسها داخل حقبة التدهور الخطي، الممتد منذ وقوع مصر تحت حكم البطالمة والرومان وحتى قدوم جيش بونابرت إلى مصر في عام 1798!
أيديولوجية المحتلين
وهكذا تصبح مصر، من وجهة نظر المحتل، إبان اللحظتين (العثمانية/البونابرتية)، مغلوبة على أمرها؛ وتظل المفارقة متمثلة في تبرير الغزو، في الحالتين، بالرجوع إلى عامل واحد مستمر ومتكرر؛ إنه “الاستبداد”، الناجم عن ظلم المماليك، (سلاطين وأمراء بكوات)، سواء حين كانت بأيديهم سلطنة المماليك القديمة (حتى أوائل القرن الـ16م) أو عندما نجحوا، كأمراء متنفذين، في الاستحواذ من جديد، وبالتدريج، على السلطة في مصر النصف الأول من القرن الـ 17م الذي شهد “هيمنة مملوكية” ثم بعد مضى فترة من هيمنة الإنكشاريين، فرضت “البيوتات المملوكية” الكبيرة نفسها من جديد في القرن الثامن عشر.
وبالمقاربة يمكن القول بإن أوليا جلبي إنما كان يُساهم في تأسيس خطاب ايديولوجي عثماني، يشتغل بتفسير وضعية مصر بعد خضوعها للإمبراطورية العثمانية؛ وكيفية استمراريتها والاحتفاظ بها؛ خطاب يتحكم في صياغته من موقع سلطة المحتل التي يجسدها هنا قلم أوليا جلبي؛ وذلك باعتباره تركيا أولاً؛ ومراقباً ثانياً؛ ما جعله قادراً على التحكم في إعادة توزيع الأضواء؛ بحيث يجعل من مبدأ ظهور دولة آل عثمان “وسطوع نجمها” في ربوع المشرق العربي، بمثابة الحدث التاريخي الأكبر؛ ومبرراً ذلك – وفقاً لمنظوره – بنجاحهم في وضع نهاية لدولة الظلم والاستبداد (المملوكي)، ونشر العمران وتوفير الأمن في ربوع وادي النيل.
«سياحتنامة مصر».. قراءة نقدية لأبعاد الخطاب العثماني