ربنا يسامحك

ربنا يسامحك

حسام أبو العلا

اللوحة: الفنان البريطاني تشارلز إدوارد بيروجيني

دفعت “تحويشة العمر” بعد غربة عشرة أعوام واشتريت محلا للملابس في منطقة تجارية، وفي أحد الأيام رأيت سيدة نحيفة ترتدي ثوبا أسود فضفاضا تفرش بضاعتها في مواجهة المحل، استشطت غضبًا وصرخت في وجهها لتبتعد، ثم حرضت أحد العاملين بالمحل لبعثرة بضاعتها في الشارع، وبصمت غريب لملمت هذه السيدة ما تبقى من المناديل والحلوى، وجلست القرفصاء تستند على أحد أعمدة الإنارة ثم انخرطت في البكاء، ولمحت صبيا نظر إلي شَزْرَا ثم هرول نحوها وطبع قبلات على رأسها ويديها ومسح برفق دموعها ثم عاد سريعا للوقوف بأكياس المناديل في إشارة المرور، وعلمت انه ابنها، يساعدها في طلب الرزق للإنفاق على أشقائه الأربعة بعد أن أقعد المرض رب الأسرة

لم أذق طعم النوم في هذه الليلة وقض مضجعي صورة السيدة وهي تبكي وترفع أكُفّ الضَّراعة إلى السماء، وبصبرها واحتساب أجر ما أصابها من مهانة عند الله صوبت خنجرا نفد إلى قلبي وأدماه وجعا، تمنيت لو صرخت في وجهي وعنفتني لكن الطمأنينة التي كانت عليها في هذا الموقف العصيب زلزل كياني وشعرت حينها أنني شخص ضئيل أمام عظمة هذه الأم المثابرة.

دعوت الله أن يمر الوقت سريعا ويأتي الصباح فأنا مدين باعتذار كبير لهذه السيدة، مر اليوم ولم تأت واختفى ابنها، زادت حيرتي وقلقي بأن يكون قد أصابها مكروها من موقف أمس، أو تكون قررت البحث عن مكان آخر “تسترزق” منه.

وبعد يومين افترشت بضاعتها في الرصيف المقابل بعيدا عني بعشرات الأمتار، رفضت بشدة اعتذاري وتجاهلت دعوتي بالعودة إلى مكانها القديم.

اكتفت بكلمة واحدة : 

روح يا ابني ربنا يسامحك“.

أصبت بقشعريرة في جسدي وتوتر وضيق في النفس، تذكرت أمي التي باعت مصوغاتها ومعظم أثاث البيت لتساعدني على السفر للعمل بالخارج ثم ماتت وهي ليست راضية عني، عدت إلى اللحظات الأقسى بحياتي وأنا أسارع الوقت للحاق بمراسم دفنها لأقبلها قبل أن توارى التراب، تمنيت لو كانت تسمعني لتعفو عن إهمالي بحقها وانغماسي في جمع المال.

جددت هذه السيدة دون أن تدرى جراح العمر التي لم تلتئم، عدت إلى بيتي وكأن الدنيا أسودت بوجهي، ومرت أعوام وظلت السيدة على حالها، واشتد عود ابنها الذي توقف عن بيع المناديل في إشارة المرور، ثم اختفيت وانقطعت أخبارها.

 اعتلّ القلب وتعبت في البحث عن طبيب ماهر قبل أن ينصحني أحد أصحاب المحلات المجاورة بالذهاب لطبيب شاب افتتح عيادة جديدة على بعد أمتار. 

اندهشت من قيمة الكشف الضئيلة قياسا بما دفعته لدى أطباء آخرين، وتشككت في خبرة هذا الشاب، لكن كنت شغوفا لرؤيته بعد ذيوع صيته لكفاءته. 

منذ الوهلة الأولى شعرت بأن ملامحه ونظرات عينيه ليست غريبة كأني رأيته من قبل، وعلى ما يبدو أنه قرأ ما كان يدور في رأسي، فضحك وقال: لم أنسك لحظة.

توقعت أنه يداعبني.. لكنه باغتني بسؤال: هل تذكر بائعة الحلوى التي طردتها؟، أنا ابنها الذي كان يبيع المناديل في الشوارع

أوصتني أمي قبل موتها بافتتاح عيادة في المكان ذاته الذي كافحت فيها لتربية خمسة أبناء قبل سقوطها صريعة في براثن المرض اللعين، وعاهدتها بتنفيذ وصيتها بأن أكون رحيما بالمرضى واتقاضى مبالغ رمزية. 


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

رأي واحد على “ربنا يسامحك

اترك تعليقًا على محمود حمدون إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.