اللوحة: الفنان الأميركي ستانتون ماكدونالد رايت
أشعر بالأسف من الغمز واللمز وعبارات التهكم على المريض النفسي، فأغلب أفراد المجتمع ينبذونه ويطلقون عليه “مجنون” ويتخيلونه كما يظهر في الأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية أَشْعَثُ الشَّعْرِ بملابس ممزقة ويهذي بكلمات غير مفهومة، لكن من يعيش وسطهم يدرك أننا مثلهم نحتاج إلى العلاج النفسي لكن لا نملك جرأة الإعلان عما نعانيه، بينما هؤلاء المرضى بعضهم سقط أسيرا للحزن الشديد الذي تحول إلى اكتئاب، وآخرين خارت قوى عقولهم ولم يتحملوا الصدمات ففقدوا صوابهم، أغلبهم ضحايا لقلوب تحجرت وضمائر ماتت، يدركون ما يدور حولهم لكنهم يهربون إلى نعمة النسيان التي بدون شك أكثر رحمة ورفقا.
تخطيت حدود العلاقة بين طبيبة ومريضة وتعلق قلبي بـ”جميلة” الوجه والروح التي كان لها نصيب كبير من اسمها، اقتربت من منتصف العقد الخامس من عمرها وأمضت عشرات الأعوام خلف جدران المستشفى وفشل كل من حاول اختراق صمتها، كانت مطيعة تنفذ التعليمات دون ضجر، لم تشهر يوما راية العصيان ولا الغضب من مرارة العلاج.
في يوم رأيتها تختلس نظرات وتصوبها نحوي كأنها تريد أن تبوح بسر، حينها أدركت أنها اللحظة المناسبة لسبر أغوارها، اقتربت منها بهدوء وقدمت لها مشروبا دافئا فقبلت باستحياء، وقبل أن انطق بكلمة لمعت الدموع في عينيها، ربت على كتفها فهدأت، ثم حاصرت انهيارها وتماسكت وتحدثت أفضل من كثيرين يدعون أنهم عقلاء.
انقلبت حياتها رأسا على عقب بعد سقوط زوجها في وحل الخيانة مع صديقتها، وعندما واجهته بجريمته عايرها بوالدها الذي قتله جاره بعد ضبطه متلبسا مع زوجته في وضع مخل، ثم عناده وإصراره على إذلالها برفضه إعطائها حريتها وتركها معلقة عدة أعوام وتهديدها بأنه سيحرمها من ابنها للأبد.
صمتت، فشعرت أنها ستصاب بانتكاسة وتعود للعزلة مجددا، لكنها بددت مخاوفي والتقطت طرف الحديث مرة أخرى، أطلقت تنهيدة من صدرها تهز جبلا عندما تذكرت يوم أن أشهر في وجهها السلاح وأكرهها على التنازل عن حقوقها في مقابل ورقة الطلاق، ولم يكف عن إيذائها وزج بها إلى مستشفى الأمراض النفسية بتقرير طبي مزور بمساعدة أحد أقاربه من أصحاب النفوذ الفاسدين.
لم يغب عن ذهنها ركلاته العنيفة التي وجهها إلى جسدها وهي تتشبث بابنها في المرة الأخيرة التي احتضنته وهي في طريقها إلى المستشفى، ومنذ هذه اللحظة لم يزرها أحدا ولا تعرف شيء عنه، ولا تريد من الدنيا إلا رؤيته.
وعدتها بإنهاء معاناتها والبحث عن حل لتحطيم قيود سجنها بدون ذنب، فتوسلت ألا أفعل ذلك خشية ألا تجد قوت يومها بعد خروجها من المستشفى، وكانت أمنيتها الوحيدة رؤية ابنها.
عكفت على قراءة ملف “جميلة”، وهالني ما وجدته من تقارير متضاربة، وعزمت على فضح كل من تورط في ظلم إنسانة بريئة، عثرت على عنوان بيتها القديم وبدأت رحلة البحث عن ابنها وكان يؤرقني حلم إسعاد هذه الحزينة التي عاشت أكثر من نصف عمرها تتقلب على جمر الوحدة.
استعنت بشقيقي الذي يعمل ضابطا فلم يتوان عن مساعدتي بعدما تأثر بظروف “جميلة”، أرسل لي تقريرا وافيا كشف وفاة زوجها، أما ابنها فيعمل محاميا، لم يصدق ما رويته، وتساءل: من التي كنت أبكي على قبرها وأقرأ على روحها الفاتحة، هل خدعني أبي؟ ولماذا كذب وأدعى وفاة أمي؟
كان ملهوفا لرؤية أمه، لكني طالبته بالانتظار أيام حتى أحسم قرار خروجها من المستشفى، امتدت محاولاتي إلى شهرين، وانتزعت بصعوبة قرار خروج “جميلة” التي وافقت على مضض بعد تطمينات بأنني سأظل بجوارها. كانت تدرك أن الزمن تغير وأن وعودي فقط لتطييب خاطرها، ولا تعدو عن كونها جبرا مؤقتاً لآمالها الكسيرة التي تتقاذفها دوامة الألم.
“عوضها الله عن صبرها” وحقق الرجاء الذي انتظرته أعواما.
على باب المستشفى كان ينتظرها ابنها وزوجته وحفيدها.
سألتني من هؤلاء؟
أجبت: هم الغد الجميل والأمل والحلم، استعيدي دفء حضن ابنك.
انخرط الجميع في البكاء، لكنها دموع الفرح.
لوحت لي والسعادة تكاد تقفز من وجهها، وانتظرت حتى اختفت سيارة ابنها وعدت إلى خلف الأسوار.
قصة جميلة عن امرأة جميلة .. بقلم جميل للأديب جميل .
إعجابإعجاب