محمود عبد الصمد زكريا
جيتك.. ولأول مرَّه وانا عيل
تلفيحتي الواكل منها البرد مغطيه وداني
دقتك.. يا طعم الفينو
المغموس في الشاي
المخلوط بحليب..
فاكراني..
كان عندي ساعتها يجي بتاع
سنتين.. وشهور.. وأماني.
هذا الشاي المخلوط بحليب الذي تحول فيما بعد إلى الشاي المُر الذي لا يجئ إلاَّ على بطاقة التموين..
هاتي الشاي المر ارميه جوايا
هاتي دوايتي وقلمي الأزرق
يمكن افوق.
وهكذا بدأت رحلة شاعرنا رأفت رشوان، وهكذا تبدلت وتنامى بها الصراع وتبلورت دراميتها كواحدٍ من أوائل من كتبوا قصيدة التفعيلة العامية في الإسكندرية.. ولست أدري لماذا أريد أن أضع هذه اللقطات من قصيدة (جهاد الطاهرة ام الأسياد) وقصيدة (الشاي المر) في خلفية هذه القراءة التي هي بمثابة تدشين لا أكثر لهذا الملموس الشعري الجديد لرأفت رشوان والذي يبادر به للآخر مؤكداً أن ما لديه من مخطوطات شعرية يفوق ما طبع له بعشرات المرات.. هذا الملموس الذي يأتي تحت عنوان (وحوش غبية)
ماسكه فستان للفرح بتطرزه
واللب بين نجف الخرز بتقزقزه
وقلبي بين صابعينها آنن
مش عايزه تفتح عليه في يوم
وتعززه
بالعكس كات بتبوظه
أيوه ما هو مش قلبها
قلبي أنا
قاعده بإبره تغززه. (قصيدة قلب فستان الفرح ص 14)
ربَّما تلخص هذه القصيدة الأكثر روعة تجربة شاعرنا رأفت رشوان على اتساعها أفقياً وبعد غورها في عمق تربتها وسموقها في سماءها رأسياً في كُلٍّ شامل ومتحد ومُقطر وبمنتهى البساطة والعمق.. نعم تلك هي تجربة ومعاناة شاعرنا مع عروسه / بلده أو واقعه ومجتمعه فما هو إلا قلب مُحب عاشق متيم بين أصابع تلك العروس التي تتسلى بقززة اللب وهي تغززه بالإبرة وتبوظه. فيا لها من ضربةٍ شعريةٍ فارقةْ.
وبالنظر إلى هذه القصيدة – على سبيل المثال لا الحصر – على أنها شكل من الكتابة له أبعاد معينة ويشغل حيزاً من المكان، فإنه بالمقابل ستدل سماتها الخارجية – الشكلانية أو البنائية – أيضاً على امتدادها، بل وصيرورتها داخل الزمان كما يفهم ذلك من الترتيب المتعاقب للأفعال: بتطرزه – بتقزقزه – آنن – تفتح – تعززه – بتبوظه – تغززه..
ومن الحركات:
ماسكه – بين نجف الخرز – بين صابعينها – مش عايزه – تفتح عليه – قاعده..
ومن تتابع أنغام التفعيلات على تفعيلة الرجز: مستفعلن مستفعلن مستفعلن: بتطرزه – بتقززه – بتبوظه. وبكل طاقتها الممكنة لبلورة الحالة..
ومع وقع حرف الروي الهاء..
ومع ثبات وديمومة الحالة: قاعدة وماسكة..
ومع الإلحاح على إثبات تاء التأنيث المسبوقة بالباء الدالة على الفعلية في الاستمرار: بت تفعل.. وكل ذلك مما ينجز إنسجاماً إيقاعياً ونغمياً يساعد على بلورة الحالة ويعضد المشهدية التصوريرية ويبروز اللوحة إن صح التعبير..
أما عن الشاعر فأخاله يصارع اللاوجود ليجبره على أن يمنح وجوداً.. نعم هذه هي نواة الارتكاز أو بؤرة تجربة رأفت رشوان.. إنه بالفعل يصارع حالة من التهميش ليجبرها على الولوج إلى المتن.
إن عالم شاعرنا يأخذ على عاتقة مهمة الكشف والتعرية التي تصل إلى نوع من الفضح في كثير من الأحيان.
وإذن.. بين يدي الآن ديوان جديد للشاعر رأفت رشوان بعنوان (وحوش غبية) صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة أولى 2018 م عن مطبوعات النشر العام وهو يأتي ربما تتويجاً لرحلة هذا الشاعر الطويلة مع الشعر والتي بدأت منذ أوخر السبعينات من القرن المنصرم حيث ظهر هذا الشاعر في تلك الفترة التي كان الزجل يتسيد المشهد الشعري المنجز بالكلمة الشعبية المنغومة ويتسم بالتكرار والاجترار والتراكم الكمي على يد مجموعة من عواجيز الزجالين مفتقداً لروح الابتداع والإبداع فكانت تلك الفترة في أمس الحاجه لظهور أصوات جديدة شابه تنتبه لمعاني التجاوز والتجديد والإضافة ومد مساحات جديدة على أرض الإبداع المنغوم بالكلمة الشعبية الأكثر تعبيراً عن الواقع المعاش.. أصوات تمتلك القدرة والجرأة اللازمة على التغيير والخروج عن المألوف المكرور الذي فقد القدرة على التأثير في الآخر فكان رأفت رشوان ومن جايلوه من شعراء العامية في تلك الحقبة هم أول من حمل مشاعل هذا التجديد، وقد لاقي شاعرنا نجاحاً كبيراً واستقبلته الساحة الثقافية بتشوق وترحاب وكأنها قد وجدت ضالتها أخيراً.. وإذن يأتي هذا الديوان (وحوش غبية) تتويجاً لرحلة أمتدت على مساحة زمنية تقارب الأربعين عاماً كمبادرة بملموس هو الأكثر طزاجة بعد أن ملء صاحبه الساحة بحضوره الدائم والفاعل في معظم فعالياتها، والديوان يحمل بين جنبيه محمولاً شعريا غزيراً من القصائد التي تتأرجح مضامينها بين الجموح المجنح المحبب الأكثر جرأة من ناحية، والإعتدال المعقلن الأشد إيلافاً وحميمية من ناحية أخرى ليؤكد إصرار صاحبه على المضي قدماً على درب الإبداع الشعري.
ويتأسس الجانب الذاتي في قصائد رأفت رشوان على بنية احتفالية طقوسية تكشف عن أبعاد علاقات التوتر العنيف والخلاق بين هوية الذات الفردية المختلفة عن مثيلاتها جوهريا باعتبار فنيتها أو إبداعيتها؛ والهوية الجماعية الشرقية التي تنزع الى محو أو قمع كل اختلاف من هذا النوع كما لو كان خطراً يهدد وحدتها ومعاني وجودها:
كنت قايم
جوه مندرة الحياة
ف المرايه بصيت فجائي
شفت واحد خضني
أنا شفتني
ممدود فس شعري الشيب سنين
كئيب حزين
متقدد السحنة ف عجز
شفتني الأمل معايا
وانا باسبقه مليون سنه
وهي – هي
وقفت معايا
عماله تحسب في المنى
بكام سنه
كنت صدقت اللي شاب
واللي ليله بات حزين
مستني يبنيلك أنا (قصيدة عَجَزْ ص 46)
……..
ما بانهزمش
من رمش رمش
ولا بانهزم من حضن توت
قادر أعمر في البيوت
صابر يا صاحبي في السكوت
راح اعافر م الغرق
يمكن أموت
والناس بخوت. (ظهر الغلاف)
إنها كتابة تأريخ الذات واستعادة الكينونة المغيبة.. ورغم أن الدلالة المأساوية تهيمن على القصائد في مجملها إلا أن المبدع يحاول تقصي الأبعاد الايجابية؛ ولعل المرجع الأهم لكل دلالة ايجابية في القصائد تكمن في قدرة الكتابة الشعرية على تحويل الذاكرة والهوية التقليدية إلى عناصر فعالة لإعادة بناء هوية الذات وفق شروط معرفية وجمالية تدفع بها نحو أفق إنساني أوسع وأبعد من كل الحدود والانتماءات الضيقة والإنحباس أو التجرثم والتقوقع في دائرة الصمت والخرس، حتى ولو أدى ذلك للإنفجار:
اتسطلت.. صوتي علا
نفخوا البروجي وصوتوا
ضربت الحية الجرس
دخلوا الحرس
ماسكين في إيدهم مشكلة
والمشكلة
إن بس القنبلة
كانت ملانه بالخرس
حفت اتعدي
بعد ما كنت اتسطلت
أيوه انتحرنا بالبرص
واتلوننا
لما أكلنا صمت الخرس
بقى جسمنا كله برص
اتفجرنا.. ماتو الحرس.(قصيدة سطله مهداه إلى قنبلة محمود عبد الصمد زكريا).
إن البديهية الفريدة التي يفرزها صميم التجربة لدى رأفت رشوان هي التمرد.. تمرد الذات المحرومة أو المكرهة بشكل من الأشكال؛ هذه البديهية تتعزز بما هي فيه من معاناة؛ فالتمرد ينشأ عادة من مشهد انعدام التماسك أمام وضع جائر أو مستغلق؛ لكن إطاحة المتمرد في البرية بعد أن يلعق لجامه هو أساسا ً من أجل أن يهدأ.. لعله أي شاعرنا يريد أن يستقر أخيراً فهو بما كان وما زال ينقشه بلا انقطاع وكأنه ينقش علي صفحة الماء.. وحيث الكتابة الشعرية عموما ً هي منتج متخيل ينطلق من أساس اجتماعي أو واقعي وهو يفرز تخييلا متولداً عن استيهامات الشعراء ويساهم بالضرورة في خلق مسارات حكائية مخالفة لسيرورة الواقع. وحيث التخييل لا يتم في فضاء الشعر وحده بل يرتكز علي صميم العلاقات الاجتماعية؛ فمرجعيات الحكي الشعورية واللاشعورية تخضع في تكوينها واشتغالها لأطر الإدراك ولأنماط المتخيل بمختلف تشعباته:
لو لتر من دم الحقيقة
شربت منه ع الريق هناك
هتشع منك شمعتك
بنور ينور ليل سماك وينورك
ويشوفوك الناس ملاك
وتقدرك
بس انت اشرب
لتر دم من الحقيقة المزهرة
ع الريق هناك
وابقى قول وانت ملاك
ع اللي جرا
ان كان ده دم
أوكان
أما هنا ف الأرض دي
دم الحقيقة الساهرة
يعني حب القاهرة. (قصيدة دم الحقيقة ص 50)
نحن دائما أمام شخصية مركبة مختلقة تقدمها لعبة الكتابة كقرين لشخصية الشاعر أو كنقيض لها؛ وفي كل الأحوال فان العلاقات الغنية والمتوترة بين هاتين الشخصيتين تخترق البوح الشعري من البداية إلى النهاية وهما تحضران معاً في كل اللحظات الحاسمة من البوح الشعري وتحولاتها.
إن جوهر التجربة الإبداعية لرأفت رشوان يكمن في البحث عن استعادة الكينونة المُغيبة عمداً في واقع يصر على تهميش الذات المبدعة وإقصائها واستلاب هويتها.. أما «الهوية» فكثيرا ما طرحت وتطرح للبحث والجدل في مختلف المقامات والسياقات حتى أنها أصبحت تيمة مركزية في خطابنا الثقافي بمختلف مكوناته وإشكاله وتوجهاته النظرية والعملية. ومع أهمية الطرح المعرفي لقضية كهذه إلا انه غالباً ما يخضع لدواع وغايات إيديولوجية قد تنتج من الإشكاليات أكثر مما تنتج من المعلومات والأفكار والأطروحات التي تعمق الوعي وتوسع مجالات التفكير والحوار وهي الوظائف الأساسية المفترضة لأي خطاب معرفي جاد في هذا المقام وغيره... فهوية الكائن الإنساني الفرد ستظل معلقة في فراغ التوهم مثقلة ومهددة بمختلف أشكال الانحباس ما لم تتصل اتصالاً قوياً وحميماً بتحققه الذي هو الدليل الأكيد، وربما الوحيد، على وجوده في الزمن والمكان. والهوية الجماعية التي تبنى على تجاهل الفردي أو محاصرته بأنواع الكبت والقمع والحرمان لا يمكن أن تكون هوية صحيحة وصحية ومنتجة وخلاقة.
وإذا كان هذا الخطاب الشعري لرأفت رشوان هو بوح متخيل من لقطات عابرة للواقع تتصل بالمعيش واليومي والمنفلت والهامشي، مثلما تتصل باعتبار الغريب والعجيب جزءا لا يتجزأ من الواقع ذاته.. فإن النماذج التي اخترناها هي مجرد نقطة من بحر يلعب الشاعر فيها دور البطل والضحية حيث ينطرح كمجرد خلية منسية رغم تميز شخصية صاحبه بوعيه وإبداعه؛ فهو شاعر يعيش ويكتب كما يرى ويريد.. أما القصائد التي بين أيدينا فلا تحمل ضمان تمامها ولا وثوقية كمالها.. ثمة شئ غائب دائما.. شئ متواري خفي؛ شئ يشترط التغير والانحراف والقدرة على التجاوز.. وعلي كل منكم أن يجتهد بالفوز بلذة اكتشافه.. تلك اللذة الغير معقولة؛ أو الغير قابلة للعقلنة.. دعوني أعترف مجدداً إنه عشق الكتابة؛ فإذا أعلنت عشقي للمكتوب؛ فلذتي تقوم علي وصال مع ما أكتب؛ مع جسد الكتابة؛ إنني أضع جسدي في حروفي؛ وإن الحروف لتغادرني جسدا / نصا ً.. لتكتبني نصا / جسداً.
وافر شكري وامتناني واحترامي وتقديري لحانة الشعراء والقائمين عليها .. أشد على يديكم بحرارة .
إعجابإعجاب