الرّمق الأخير

الرّمق الأخير

د. هشام منصور

اللوحة: الفنان النرويجي إدفارد مونك

انتصف كانون الثاني حاملًا معه متأخّرًا الأمطار الأولى لهذا العام. عام ابتدأ بشمسٍ ساطعةٍ مشرقةٍ في غمار شتاء اختتم سنةً غير كل السّنين. سنةً دارت فيها الأرض سبع مرّات حول الشّمس على الأقلّ فاختلّت موازين الوقت وتعثّرت عجلات الزّمن فصارت تبطئ أحيانًا وتتعثّر أحيانًا أخرًى، فبانت وكأنّ وقت استبدالها قد حان. 

نزل السلالم بخطوات بطيئةٍ و متمهّلة. 

منذ بضعة أشهر وهو يتفادى استخدام المصاعد وكلّ المساحات الضّيّقة. 

المبنى لا زال هادئًا رغم أنّ الوقت قد قارب الظهيرة.

كلّ سيّارات الحيّ لا زالت في مكانها منذ البارحة ولعلّها ستبقى هكذا لبضعة أيّامٍ مقبلةٍ وفق صدور قوانين التّعبئة العامّة. 

ترقرقت قطرة المطر على يده، رفع عينيه إلى السّماء الملبّدة بالغيوم، كانت الشّمس تختبئ بحياءٍ خلف سحب الشّتوة الأولى لهذا العام. صوت قطرات المطر يتردّد متناغمًا على الإسفلت فلا يعكّر انتظام سيمفونيّته البطيئة سوى صوت سيّارة تسابق الوهم على طرقاتٍ فارغةٍ إلّا ممّن ألزمهم ظرفٌ طارئ الخروج من منزلهم في إطار القوانين الاستثنائيّة.. وهو ممن ينطوي تحت تلك الإستثناءات.

“دكتور، حالة الطّفل في غرفة العناية مستقرّةٌ على سلبيّتها ودون أيّ تحسّنٍ يُذكر وقد طلب أطباء العناية رأيك كاختصاصيّ في أمراض الجهاز العصبيّ أنت وأخصّائيين آخرين.”.. كانت تلك المخابرة عند ساعات الصّباح الأولى بمثابة استدعاءٍ للخدمة، لم تستفض الطبيبة المناوبة في الشّرح أكثر من ذلك، فهو يعرف ذلك الطّفل المريض وعلم بدخوله منذ مدّةٍ ولكنّه دخل بسب التهابٍ جرثوميٍّ ولم يكن هناك من حاجة لطلب رأيه بشكلٍ رسميٍّ بعد.

فتح باب السّيارة بيده التي استخدمها ليفتح باب البناية، سارع إلى رشّ المعقّم باليد الأخرى و فرك يديه مسرعًا محاولًا التخلّص من عدوٍّ لامرئيًّ قد يكون مختبئًا على إحدى تلك الأسطح المعدنيّة. استقرّ في مقعده و نزع الكمّامة. 

تصاعدت أنغام التّراتيل و الصّلوات من راديو السّيّارة، الرّاديو يعيد هذه الملفّات عينها منذ سنة على الأقل، و هو يعيد الاستماع إليها تكرارًا، فبعد مآسي السّنة الماضية الحافلة بالكراهية والألم والكآبة والخراب أخذ قراره بعدم الاستماع إلى أيّة محطّة إذاعيّةٍ محلّيّة، فلديه ما يكفي من الوعي لاختيار نوع الضجيج الذي اعتادت البشريّة أن تملأ به خلفيّات حياتها اليوميّة في مجتمع اعتكف عن إدراك أبعاد الصّمت و السّكون، فصار أحوج إلى الصّلاة أكثر من أيّ زمنٍ مضى.

كان يستطيع استغلال خروجه من المنزل اليوم للتّبضّع و شراء النّواقص للمنزل، ولكنّه أتمّ ذلك في مهلة اليومين الماضيين بعد إعلان قرار الحكومة بالإغلاق التّامّ، يومٌ لأصحاب السّيّارات ذات الرّقم المُفرد، ويومٌ لأصحاب السّيّارات ذات الرّقم المُزدوج. 

مهلة كانت كافيةً لتُظهِر غرابة السُّلوك البشريّ خصوصًا في مجتمعٍ عرف كلّ أنواع الحروب والاحتلالات والانتصارات والأزمات السّياسيّة على مدى الأعوام الخمسين التّي مضت، فالأزمة الإقتصاديّة لم تمنع المواطنين من إفراغ رفوف السوبرماركت البارحة من الموادّ الأساسيّة ، منطقيًّا، و لكن بالأخص من البزورات ورقائق البطاطا وقطع الحلوى المغلّفة وسواها من المسلّيات غير المغذّيّة بل والضّارّة، وكأنّهم ذاهبون في عطلةٍ أو نزهةٍ ترفيهيّة. 

الطريق لا زال على فراغه غير المألوف. هواء بيروت نقيٌّ اليوم يحمل رائحة الأرض مع المطر، هذه المرّة الأولى التي يتنشّق فيها رائحة الأرض النديّة في شوارع المدينة.

كان عليه أن يزور ثلاثة مستشفياتٍ اليوم، كان ذلك يأخذ منه في العادة نصف ساعةً صباحيّةٍ لوضع الخطّة اللوجيستيّة للتّنقّل بعد مراجعة المسافات و مطالعة خرائط الغوغل و تقصّي أخبار الإزدحام على الطّرقات. كان يحسب ألف حساب للانتقال بين المستشفيات نهارًا لما فيها من استنزافٍ للوقت المهدور، و أحيانًا كان يترك تلك الجولات للمساء بعد ساعات الازدحام، أمّا اليوم فانطلق “على ما يقدّر الله” فكلّ الطّرقات سالكةٌ في هذه العاصفة.

أوقفه الحاجز الأوّل بعد كيلومترٍ واحدٍ، دركيّ في عشرينيّاته يقف إلى جانب الطّريق تحت المطر لا تقيه سوى قبّعته الرّسميّة و معطفه البلاستيكيّ. إنحنى و دقّق ببطاقة التّعريف النّقابيّة تحت الزجاج الأماميّ وأشار له بمتابعة طريقه.

الأرصفة خاليةٌ من المارّة، وحده ذاك العجوز يتّقي المطر تحت الجسر الكبير. رأسه شبه مطأطأٍ، ظهره منحنٍ انحناءة مُصَلٍّ في ساحة المعركة، هو يعلم أنّ العدوّ هنا وهناك وعند الجهات الأربع يعصف حوله بِرِيحٍ غير منظورةٍ فيحني رأسه ليحمي عينيه و يكمل السّير إلى الأمام رغمًا عن مواثيق الزّمن.

توقّف عند الإشارة الضوئيّة الحمراء رغم خلوّ التّقاطع حتّى من المتسوّلين، متسوّلون هجروا الشّوارع يوم أصبح معظم البشر متسوّلين يتسكّعون على رصيف الحياة.

أُطفِئَ الضَّوء الأحمر، انتظر هنيهةً، الضوء الأخضر لم يُضئ، التّقاطع لا زال مهجورًا، أكمل طريقه بحذرٍ وهو يترصّد كلّ المخارج، قد أصبح معتادًا على هذه الشوائب في حياته اليوميّة بعد عواصف العام المنصرم.

في آخر الطّريق حاجزٌ متنقّل حطّ رحاله و انتشر عناصره بسرعةٍ منتظمة، سارع إلى ارتداء كمّامته الرّباعيّة الطّبقات و خفض زجاج الشّباك ما يكفي ليسمع صوت الشّرطيّ الذي أشار له بيده ليتوقّف.

  • “إلى أين أنت ذاهب يا سيّدي، هل أستطيع أن أرى إذنك الرّقميّ على شاشة الهاتف”، أتاه صوت الدَّركيّ من خلف كمّامته القاتمة التي جعلنه يبدو كأحد أبطال المسلسلات الكرتونيّة اليابانيّة.
  • –       “أنا طبيبٌ و في طريقي إلى المستشفى” أجابه و هي يشير بإصبعه إلى بطاقة تعريف السّيّارة.
  • –       “نعم و لكنّي أريد أن أطّلع على بطاقة النّقابة من فضلك فأنت لا تصدّق كم من الأشخاص ينتحلون صفة طبيب اليوم” أكمل الدّركيّ بأدب.
  • –       “طبعًا” أجاب و هو يعطيه بطاقة النّقابة التي تحمل صورته و هو يتساءل في ذاته عمّن قد يسعى لانتحال صفة طبيبٍ دون أن يدرك حجم العبء الذي يُثقِلُ كاهل حامل ذلك اللَّقب.
  • –       “تفضّل يا دكتور” قالها و هو يعيد البطاقة له “الله معك و لا تؤاخذني”
  • –       “بالعكس يا ابني، يعطيك العافية، و احْرَص على أن تكمل قيامك بواجبك على هذا النّحو الدّقيق” أجابه مبتسمًا من تحت كمّامته و هو يرفع الزّجاج.

 ربع ساعة كانت كافيةً ليصل إلى المستشفى. تذكّر اليوم من جديد كم هي جميلةٌ مدينة بيروت، هي تبقى بنظره أجمل من كلّ المدن التي يعرفها خصوصًا و أنّه اليوم يستطيع أن يرى جمال تفاصيلها و لا يعميه عنها الضجيج و الازدحام و ضباب مشاعر الغضب التي تجتاح مواكب سائقي السيارات في العادة.

باحة المستشفى شبه خاليةٍ من السّيّارات، فزيارات المرضى ممنوعةٌ منذ شهرٍ على الأقلّ. 

“يعطيك العافية” قالها للموظّفة التي تراقب حرارة الدّاخلين وهو يخلع قبّعته مفسحًا المجال لانعكاس الأشعّة ما تحت الحمراء على جبينه.

“تفضّل يا دكتور” أجابته بعد أن سمعت رنّة الميزان.

الأهل لم يكونوا هناك، ذهبوا للبحث عن دواءٍ غير متوافرٍ في المستشفى، شأنه شأن العديد من الأدوية في خضمّ هذه الأزمة.

لبس كلّ القطع الواقية فوق ملابسه و رأسه و غطّى يديه و قدميه.

الطّفل مستلقٍ في غرفة العناية و الأنانيب البلاستيكيّة تجتاج جسده الفتيّ عبر الأنف و الفم و من تحت الجلد. لا أثر لمشاعر الألم على وجهه. 

سلامٌ ثقيلٌ يخيّم على تلك الغرفة، لا يعكّر سكونه سوى صوت جهاز المراقبة المعدنيّ الرّتيب. دقّات القلب منتظمة، نسبة الأوكسيجين تفوق ال 95 بالمئة، الضّغط مستقرّ، كلّ الأرقام مطمئنة.

  • “هو على هذه الحال منذ أسبوعين” سارعت الطبيبة المقيمة بالقول و هي تعرض عليه الملفّ الطبيّ الورقيّ.
  • –       “أنتم قد أوقفتم كلّ أدوية التّخدير و المهدّئات و لم يستفق من غيبوبته بعد؟” أجابها و هو يتفحّص الملفّ باحثًا عن ورقة الإستشارة التي يجب أن يكتب عليها توصياته غير الملزمة للطّبيب المشرف.
  • –       “منذ أسبوعين كاملين، و كلّ مؤشّرات الالتهاب مستقرّة ونعتبرها في طور التّعافي الكامل ولكن دون أيّ تجاوبٍ على صعيد الوعي” أجابته و هي تناوله الورقة البيضاء التي يفتقدها “تفضّل دكتور، كنت فقط أملأ خانة طلب الاستشارة” 
  • –       “هي حالة جينيّة نادرةٌ و تتطوّر نحو التّدهور الكليّ للجهاز العصبيّ كما تعلمين وذلك قد يلي أيّ التهابٍ بسيط”
  • –       “صحيح، ولكن السّؤال يبقى عن الحدود التّي يجب أن يتوقّف العلاج عندها، ولهذا السّبب تمّت استشارة حضرتك و الأخصّائيين الآخرين”
  • –       “وفق قانون الأخلاقية الطبية، ووفق القانون العادي يجب أن نستمرّ بالعلاج المتاح حتّى الرّمق الأخير. و ما هو رأي الأهل؟”
  • –       “الأهل ضائعون و لا قرار لهم، يخشون على ابنهم من العذاب الذي يعانيه ويريدون أن يقدّموا له كلّ ما باستطاعتهم، لعلّهم إذا حافظوا عليه حتّى الغد، قد يكون أصبح هناك علاجٌ، أو قد تحدث أعجوبة”.. أجابته و هم يدخلون المكتب الزّجاجيّ خلف العوازل.
  • –       “هم لا يعلمون و يطلبون التقييم العلميّ الذي سيأخذون قرارهم بناءً عليه” أجابها و هو لا زال يحدّق في تلك الورقة البيضاء.

أغمض عينيه و فكّر سريعًا في قرارة نفسه: “هم يريدون أن نعطيهم رأيًا علميًّا متجرّدًا ليأخذوا على أساسه قرارًا يرتكز على مقاييس و أبعاد لا تعترف بعالمنا الثّلاثيّ الأبعاد. في ذلك البعد الرّديف، كان يكفي لهذا الطّفل أن يلمس هدب ثوب الله بإيمان؛ ليطوّع جنوح آفات الحياة.” .. معضلةٌ لم يجد سلامًا مع إجاباتها على بديهيّتها.

تنهّد ملء رئتيه على مهلٍ و كأنّ الموقف جعله يتثبّث بكلّ نفحة هواءٍ فيهما، وتمتم بكلمات شبه مفهومةٍ قائلًا: “ليأخذوا قرارهم بشأن الرّمق الأخير”

“الرّمق الأخير”، أعادها في ذهنه بصمتٍ و كآبة، هي عبارة شعريّة رنّانة زيّنت العديد من النصوص الأدبيّة، كتبها الكثيرون جزافًا و قلّما فكّروا بأهميّة هذا الرّمق، هذه السّحابة الرّقيقة المتبقّية من مكامن الحياة في الجسم البشريّ. 

نظر إلى الرواق الزجاجيّ الفاصل بين المرضى وذويهم، والدا الطفل قد عادا للتّوّ. الوالد يقف كحارسٍ ليليّ منهك القوى يصارع جنود النّوم ليبقى على يقظته في مهمّة حراسةٍ أبديّة على باب خزنةٍ أودعها كنزه الثّمين، والوالدة تضمّ يديها إلى صدرها و الألم يعصف بها بكلّ جوارح كيانها، طفلها ينام مطمئنًّا و هي ترزح تحت ذاك الحمل الثّقيل.

نظر إلى ورقة الإستشارة البيضاء، قلم الحبر السائل في يده لا زال مغلقًا. 

الورقة لا زالت بيضاء، ربّما هناك أسئلة يجب أن تبقى دون إجابات.


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.