عصا

عصا

مصطفى البلكي

اللوحة: الفنانة اليابانية شيهيرو ناكاهارا

وجوه العيال الطافحة بالكره لصاحب البيت، يطلقوها في هيئة شتائم، تفلح في بث الغضب في جسد الرجل، فيكز على أسنانه وبعصبية يحرك عصاه، فتصطدم بطرف الدكة، فتولد الخبطات، يقوي من دويها، بغرض تحجيم وجودهم، ومنعهم من الاقتراب من داير الفسحاية المكنوسة والمنداة بالماء، لاستقبال الضيوف..

العيال من جانبهم، يرددون بصوت واحد: العقيرة.. العقيرة.. لواد الفقيرة. ينفلت أحدهم من وسط الجوقة المتداخلة، يدنو ببطء مصحوباً بتشجيع رفقته، تأخذه خطواته الزاحفة إلى بداية أول دكة، يلقي بجسده عليها، ينظر إليه صاحب البيت، ويحرك عصا في الهواء، الصغير المنتبه لفحوى الرسالة، يهملها، ويضم ساقيه، ثم يهزهما برفق، متعمداً ألا تتقابل عيناه مع نظرات الرجل الذي شرع في الإسراع في هز عصاه في الهواء، فأحدثت صوتاً، تخطي الساحة ووصل للعيون المتابعة، رجحت أن العصا سوف تطير من يده، أو أن تظل في يده وهو يطارده ليوقع بها على جسده.

يغادر مكان جلوسه، لا تردعه كلمات يقولها له عجوز قريب منه، تبعه وهو يدنو من الصغير الذي وضع ذيل جلبابه بين أسنانه، وجري لينفد بجلده من عقاب الرجل، يرميه بالعصا، فتصطدم بمؤخرة ساقه، تجعله يسقط، منهاراً على ركبتيه، لكن تصوره لما  ينتظره جعله يشب على قدميه، ويخطو مسرعاً ـ بعرج واضح ـ لينجو، لكن اليد القوية نجحت وقبضت على جلبابه من الرقبة، فقيدته إلى الأرض، لتمتد بسرعة ودربة إلى أذن الصغير، فتقبض عليها بقسوة، فتخُرج صرخات ملتاعة، تملأ  الساحة، يصرخ بينما يده داخل جيبه، تقبض على ملعقته.

بينما يد الرجل وهي  تواصل هصر أذن الصغير، عيناه تجوبان على البيوت المواجهة للساحة، تبحثان عن امرأة تتشيع لمن في قبضة يده، ليجلدها بكلام يخدش جسدها ويخرس لسانها. الوقت يمضي ولا أحد يخرج، ومن يجرؤ على ذلك الفعل إلا امرأة تريد فضح نفسها، هكذا يقول العجوز لنفسه وهو يتقدم لإنقاذ أذن الصغير المدفونة في قبضة صاحبه، يعافر بكل قواه لشد اليد الجافة، المتشبثة بكل قوة بأذن الصغير المندفع للإمام بفعل خوفه وللخلف تحت قوة الشد، يتعب فيكف ويعلقً أمل نجاته في فم العجوز، معنفا إياه كونه وضع نفسه أمام صغير لا يعقل ما يفعل.

يتركه الرجل ويعود لمكان جلوسهما، ويحاول أن يتكلم لكن ضجة تصادم الملاعق تجعله يعود إلى سابق عهده، ويعود إليه التوتر، فيهم بالقيام، فيجلسه العجوز ويعيد ما قاله بصوت منخفض، كلمات لم تفلح في كبح غضب صاحب البيت، فحذر أي صغير يجده على أي دكة.

إصرار الصغار قوي أكثر مما كان عليه قبل أن يتفوه الرجل بالكلمات التي قالها، قرأ ذلك من الجلسة الجماعية التي قاموا بها في لحظة واحدة وبحركة واحدة، فلا يجد إلا توجيه وجهه شطر وجه العجوز المشوه المعالم تحت ضغط الغضب، يخبره إن الصغار إذا سدوا بطونهم بأي شيء، سكتوا، فلا يضيره لو قدم لهم وعاء من الدشيشة المخلوطة بالأرز.

يفلح العجوز في مهمته، فيقوم الرجل ويدخل البيت، في نفس لحظة امتداد يد العجوز إلى الصغار الجالسين، وطلبه منهم أن يقبلوا. نظرات قليلة تبادلها الصغار، كانت الريبة هي سيدة الموقف، تُكبل أقدامهم، وتمنع وقوفهم، لكن حينما وقف من في قدمه عرج، تبعه الكلتحت سماء نظر العجوز استراحت أجسادهم على أول دكة، تلاصقت أجسادهم، وعلت همساتهم وضحكاتهم، التي سرعان ما ماتت عندما رفع سبابته وجعلها متعامدة على شفتيه.

يخرج صاحب البيت وبين يديه تستقر كسرونة كبيرة، ينطلق منها بخار يحمل رائحة حريفة، أفلحت في شخب ريق كل الصغار، ودفعتهم إلى إخراج الملاعق ورفعها كأنها سيوف، والهرولة للبقعة المنداة من الأرض التي أراح فيها العجوز مخلوط الأرز والقمح المدشوش.

لم يستغرق الإتيان على ما في الكسرونة إلا دقائق قليلة، بعدها انتصبت أقدامهم، واخترقوا الساحة المتراص على جانبيها الدكك، وما إن أصبحوا في فم الفسحاية، حتى تسربت إليهم رائحة اللحم الناضج، فتلمظت أفواههم وتحولوا إلى جوقة، نصفها راح يهتف:

ـ أكلنا عقيرة.

والنصف الآخر يرد:

ـ لم نأكل لحماً

ضحك العجوز، بينما الرجل رفع عصاه وجري خلف الفرقة المنشدة..

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.