عتيق الشعر والمكان.. اخلع نعليك وادخل بيوت القصيدة حافياً

عتيق الشعر والمكان.. اخلع نعليك وادخل بيوت القصيدة حافياً

وليد الزوكاني

اللوحة: الفنان السويسري أوتو بيلني

الشعر وطن العرب القديم، والعربي شاعر بمقدار توقه، بمساحة حلمه، يعيش فيما يجب أكثر مما يعيش فيما يمكن، قوة خياله دلالة على المساحة المفقودة، 

وربما على سعة المساحة الموجودة – الغفل – المتاحة حوله، المساحة الممتدة كصفحة بيضاء بين أفقين غامضين، فاتحة أمامه على الدوام، إمكانية هائلة للخلق، للإيجاد.

الصحراء فراغ يستثيره، يفتح شهية الخلق لديه، يورّطه، ومن يقدر أن يبني عالماً على هواه؟، من؟ كيف يرفع سموات، ويدحو أراض، ويعلق أجراماً، ويقيد كواكب، كيف؟ وبماذا؟

حين يكون العدم مانحاً نفسه إلى هذه الدرجة، وبهذا البهاء، ويصير الوجود ـ وجوده الخاص ـ بهذه الكثافة، وتتملك العقل هذه الرغبة المفرطة، تصبح الكلمة أداة يتيمة للخلق، لا أحد، ولا شيء يقدر غير الكلمة، وماذا تبني الكلمة؟

أيكون العالم قصيدة بكل هذا الثراء؟

أم تكون القصيدة عالماً بكل هذه الكثافة؟

لم يفكر العربي بهذه الطريقة، لم يفلسف الأشياء، لم يجلس ليقشّر قلبه ويتملاّه، ظلّ يطارده، ويصطاد في مداراته، ما يجعل وجوده حقيقياً. 

*** 

هل يعني هذا عدم اعترافه بالواقع؟، رغبته المحمومة بالخروج منه إلى نفسه؟ بتجاوزه؟ إذا كان كذلك، كيف لنا أن نفهم استثمار العرب للتاريخ، وتفوقهم في إدارة الممكنات؟

حين نطلّ على العربي من شعره، من ترحاله، قيمه، مدارات الحرب، مدارات السلم، نجده يتحرّك في المنطقة الوسطى، في البرزخ الخلاق، الممتد بين الواقع بسطوته وتفاصيله، وبين الحلم بشفافيته وكلّيته. 

أليست الحرب، حرب الفرسان، أكثر الأشياء وضوحاً وقسوة، في محاولة تغيير العالم، وإعادة صياغته من جديد؟

كأنها الحلم وقد صدّق نفسه، الفنتازيا واللامعقول، عارية من أية معقولية وواقعية. والحرب أيضاً، أكثر الظواهر الاجتماعية حاجة للواقعية، في إدارتها، المحارب الأكثر قدرة على إدارة الواقع، والإنصات له، الأكثر التقاطاً لتفاصيله، هو الأقدر على النصر. وكأن الفارس المحارب، يقبض على الواقع بيد، وعلى الحلم بيد، ويظل الثالث بينهما الذي يصنع نفسه بنفسه، ويحتكم للدّهشة.

ولم يكن بعيداً عن ذلك، اعلاء قيمة الكرم، والتباهي بالجود والعطاء، في مجتمع يعيش على النّدرة، ويعاني منها. 

شحّ الطبيعة، نقص الأمطار والمراعي، قلّة الموارد، أسباب جعلت الغزو، بكل معانيه وتداعياته، عرفا اجتماعيا سياسيا مسلّما به.

الندرة، لدرجة الغزو، والتطاحن على القوت، مقابل كرم قد يتعدّى أحياناً للطير والوحش. 

يستحوذ العربي ليهب، يأخذ ليعطي. 

كأنهم ينهبون ليراكموا أرواحهم، لا ثرواتهم. وكأن اللحظات، التي يكون العربي فيها واقعياً، هي خطوة ضرورية، لانعتاقه من الواقعية التي يأنفها، باتجاه الحلم والخلق، باتجاه رؤيته الخاصة للعالم، بين فضاء الشعر ووجودية الموقف. 

*** 

يشدّ الحيّ رحاله، تتأهّب الحياة للرحيل، بيوت الشَّعر تنطوي، مانحة الفضاء لبيوت الشِّعر. 

كانوا مأخوذين بالوِجهة، لم ينتبه أحد، للمكان الذي جلس على حافّة الموت، يلوك الأثافي، والرماد المستحيل. 

هنا سينتبه الشاعر إلى بكائه الشخصيّ، ويجهد صحبه ليتبيّنوا كُنْهَ القلق الذي يفيض في عينيه، وفيهم، ثمّ شيء أكبر من الرحيل ـ رحيلهم ـ والقصيدة لم تعد تشتمّ آثار المواقد والمراتع، كأنّها تنفلت الآن، لتعيد تشكيل المكان كما يحلو لها، لتخلقه على فرادتها، تسكب بحراً أسفل الوادي، يتّضح مشهد الأمس، تصير الجمال التي تحملهم سفائن، تشقّ حباب الماء وتمضي ـ ربما لأن رحيل السفن أمعن في الغياب، وأمنع من تتبّعه، من رحيل الجمال، الذي يرتبط بالانتقال، ويمكن تتبّعه.

في ظل شجرة، تطلع الغزالة الوحيدة، التي تخلّفت عن صحبها بانتظار القصيدة، فتشكّ القصيدةُ ورق الشجر، قلائد لجيدها، تزيّن طرفها بالنعاس، تحُوْط ضوء فمها بالدّكْنة، تضحك الغزالة ـ الحبيبة، فتفلت القصيدةُ زهر الأقحوان، على طرف الرمل الخالص. 

إنّها حياة التّرحال، في الغياب تفوح رائحة الشّعر، من جرح الكلام، كما تفوح الجريمة من ضحاياها، يتورّط الشاعر بالألم، في مسعاه لبلوغ اللذّة، تضيع الفوارق بينهما، يصير الوصول والموت متماثلان، كلاهما حضيض، وكلاهما ذروة. 

في الغياب، تتضح المساحات المفقودة على الدّوام، تتعرّى المساحة البكر، مانحة نفسها لوجود يفتّش عن نفسه، وإذ يستيئس، يرسم القول على رمل لا يحفظ الأثر، يوطّن المكان في القصيدة، ويؤسس مملكة الشعر. 

للآخرين ممالكهم، وقصورهم، وله الرّحلة، وظلّ الناقة، يقعد، يتّضح الظلّ أمامه كظلِّ قصر ـ أعمدة، قناطر، رأسها الذي يعلو كبرج ـ يتلمّس الناقة: قنطرة من أمام، وقنطرة من خلف، وأضلاعها أقواس سقف متين، يسير به أبداً، من سيرة، إلى سيرة. 

يتطلّع حواليه: أفق حاد كالسكين، يقطع مدى الصحراء، إنهم هناك، في مكان ما خلفه، وماذا بعد؟ 

أوليست الحياة هي الرحلة؟

يتّضح أفق الحياة وحدّها، قريب، مرئيّ، كما لم يكن من قبل، كأنّه يرى موته. 

وماذا سيبقى منه، من أثره؟ أهو الشعر؟ من يدري، يستشفّ الآتي، ويقبع فيه، ينادي امرأة لتندبه بين القوم، وتنوح عليه، ويرى حياته العامرة من هناك، وكأنها تلوح كباقي الوشم، في ظاهر اليد، يد الدّهر. 

*** 

أتذكّر مناهج الدراسة التي طالما لقَّنتنا، أن الوقوف على الأطلال عند الأقدمين، جزء ملزم من عمود الشعر آنذاك، كان على الشاعر أن يلتزم به، لأنه عُرفٌ ومعيار فني ثابت، وكيف صرنا نقرأ القصيدة، مستعجلين الخروج، من الطلل، إلى القصد، على اعتبار أن القصيدة، تخرج منه إلى قصدها ـ غايتها؟

كأن الوقوف على الأطلال عبء على القصيدة، والشاعر في ذلك، مجبر لا مسؤول، في الوقت الذي شكّلت فيه الأطلال، أحد غايات القصيدة، وربما أحد أهم الغايات، والشاعر في اتّباعه قصيدته، كان يمارس نوعاً من الحريّة، لا الضّرورة. 

المسألة قديمة، ربما بدأت مع دخول العرب عصر المدائن، وما تبع ذلك من تحول في حساسيتهم الشعريّة. 

وكما يحدث عادة، لا يكتفي الحديثون بالخروج على نمط الأقدمين، باتجاه تجاربهم الخاصة، بل يميلون إلى تبيان، أن النمط القديم، حتى في فترات ازدهاره وسيادته، كان قليل الجماليات. تدفعهم الرغبة في تبرير أنفسهم، أمام جمهورهم الخاص، إلى محاولة تبرير أنفسهم، أمام التجربة البشرية بعمومها، يخامرهم حسٌّ، أنهم وحدهم قبضوا على الحقيقة، وصار بإمكانهم أن يقولوا للتاريخ: كان عليك أن تمرّ من هنا؟ 

*** 

دائماً تتكرر إشكالية الحداثة، (الحداثات)، ليس فيما تنتجه من أعمال خلافيّة، ورؤىً مغايرة، (وهذا أصيل ويشكل الجانب التقدمي في كل حداثة)، بل بما تشيعه حولها من تشويش متعمّد يكاد يقوّض كلّ شيء، ومن بحث عن كل ما يشكّل نقيضاً للمنجز السابق، حتى ولو كان على حساب التجربة الجمالية نفسها (الجانب الرّجعي في كل حداثة). 

كأن “الحداثيون” لا يؤمنون إلاّ بالهدم، وأما التجاوز، الذي شكّل جسد التاريخ، وصروح الحضارة البشريّة، فيكادون لا يؤمنون به، ربما لأنه يحتاج إلى معقوليّة كبيرة ليمكن إنجازه، وتأصيله، عكس الهدم، الذي يكفيه أحياناً قليل من الرّعونة!.

5 آراء على “عتيق الشعر والمكان.. اخلع نعليك وادخل بيوت القصيدة حافياً

  1. مقال جميل …وفيه تشبيهات وصور كثيرة …وتنقلت بنا في عدة مواطن ..زمانا ومكانا ….تحية لك

    إعجاب

  2. أبدعت واحسنت استاذ وليد ،فعلا موضوع يستحق الطرح والنقاش فنحن في منطقة وسطى ،الحداثة بالنسبة لنا / الجزء الأكبر هى فقط في الاستهلاك وليس في الإنتاج الفكري الذي أدى الي هذا الناتج. أحييك .

    إعجاب

    1. شكرا لقراءتك أخي الطيب عبد الناصر.. بالفعل نحن في منطقة وسطى وربما علينا إنجاز ما بدأناه لتجاوز هذا المستنقع.. تحياتي ومحبتي

      إعجاب

  3. سيظل مصطلح الحداثة معلقاًيتأرجح لا يستطيع أن يثبت قدميه على أرض الواقع ، وأعتقد أنه سيظل كذلك استناداً لما تفتحه لفظة حداثة من فضاء دلالي .. وبهذا المفهوم فقد مر الشعر العربي بالعديد من الحداثات منذ أبي نواس الذي رفض الوقوف على الأطلال والشعراء المولدين والموشحات الأندلسية وقصائد المتصوفة وقصيدة التفعيلة ومنثور الشعر ، وهكذا .. كل ذلك وغير يُعد حداثات على قديم الشعر .. حتى ما بعد الحداثة ما هو بمفهوم الحداثة سوى حداثة .

    إعجاب

    1. أشكرك أستاذ محمود على قراءتك واهتمامك.. أعتقد أن الحداثة – بمعنى الانقلابات الثقافية النوعية – فعل مستمر في التاريخ البشري.. وإذا كانت الحداثة بمفهومها المتعارف عليه أصبحت ضرورة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مع الضغط الذي شكلته التكنولوجيا والتطور العلمي على الأفكار والمعتقدات القديمة.. بكل الحالات تحتاج القطيعة المعرفية مع الماضي إلى تجاوزه وليس إقصائه أو إعدامه.. فالخلاف مع القواعد المعرفية الحاكمة وليس مع المعرفة القديمة.. تحياتي ومحبتي

      إعجاب

اترك تعليقًا على وليد الزوكاني إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.