حنان عبد القادر
اللوحة: سعدي يوسف بريشة الفنانة العراقية نوال السعدون
ليس يمْكِنُ للمرءِ، أن ينتقي، كلّما شاءَ
في لحظةٍ، أصدقاءَ قَدامى …
ومثل البيوتِ العتيقةِ
مثلَ قِلاعِ الممرّاتِ
مثل الخيولِ الـمُسِنّةِ
يمضونَ عاماً فعاما؛
وأنتَ ستمضي إلى حيثُ يمضونَ
في نِعمةٍ من نُعاسٍ
وفي نغمةِ النايِ إذْ تتلاشــى تماما .
“سعدي يوسف”
أيعقل أن يرقد سعدي يوسف يعاني مرضه العضال وحيدا منفيا دون أن يلتفت إليه أحد؟
أيعقل يا أدباء العرب ومثقفيهم أن نغض الطرف هكذا عن قامة أدبية بحجم سعدي يوسف، ونتركه يعاني الوحدة والتهميش والنسيان في منفاه الأخير؟
إلى متى ستظل تأكلنا البلاد التي نعشق؟ وتدوس سنابكها بقايا أرواحنا دونما شفقة، فنرحل فرادى، وحيدين، منسيين؟
إلى متى…؟
آلمني وأحزنني ما سمعت من أخبار، من أن سعدي يوسف يرقد الآن وحيدا في إحدى مشافي لندن، وهو واحد من أهم شعراء ومترجمي القرن العشرين، يرقد منفردا بآلامه وإحساسه العميق بالغبن والتهميش، هناك يرقد فارس من فرسان الأدب العربي.. يرقد سعدي يوسف صامتا متحسرا.
يعتبر سعدي يوسف من أهم الشعراء العرب في القرن العشرين، بل هو من الأدباء الذين يعدون على الأصابع ممن حملوا لواء الثقافة والأدب في النصف الثاني من القرن الماضي، رحل عنا منهم من رحل، وبقي من بقي.
إن ما يمر به سعدي يوسف الآن يذكرنا بحقيقة قاسية؛ وهي أننا نحن العرب لا نحتفي بمبدعينا ولا بمفكرينا، ولا نقدرهم حق قدرهم، ولا ننتبه لهم إلا بعدما يفارقون عالمنا، فنبكيهم بدمعتين باردتين، ونكتب في مدحهم قصيدتين مفتعلتين، ثم… ننساهم في مقابر جماعية للتراث.
ما جعل قامات مثل بودلير ورامبو وجوته وفيكتور هوجو وفولتير وتشارلز ديكنز وريلكا ودستوفيسكي، وغيرهم أدباء يشكلون أعمده حضارية وثقافية لكافة البشرية، وما جعلهم عالميين؛ هو اهتمام شعوبهم ودولهم بهم، وتقديرهم وتكريمهم لهم.
المبدعون متساوون وكل مبدع هو عالمي بالطبيعة لأنه يقدم للبشرية جديدا يحملها إلى درجة أرقى من التحضر، لكن انتشارهم وعالميتهم ترجع إلى الأمم والشعوب التي يكتبون لها وينشأون بها، إذا كنا لم نستطع أن نكون في حاضرنا من الأمم المتقدمة – تكنولوجياً وعلمياً -؛ فعلى الأقل لدينا مخزون وإرث وتاريخ وحاضر أدبي وثقافي يشار له بالبنان، ولا يستطيع العالم أن ينكر ذلك، لكن للأسف يظل مبدعونا محليين، غير معروفين خارج بلدانهم، يموتون فرادى وحيدين منسيين.
هنالك أسماء أدبية وثقافية كبيرة ولامعة في القرن العشرين، لكن للأسف! لا أحد يتذكرها محليا أو عالميا، والأمثلة كثيرة لا مجال لذكرها هنا، إذا كان لابد من تكريم المبدع والشاعر والأديب – أيا كانت وجهة نظره واتجاهاته الفكرية – كونه ذا فكر ورسالة ساهمت في توسيع آفاق المعرفة، واستطاع بإبداعه أن يغير – ولو قليلا – في اتجاهات الذائقة الثقافية والأدبية، فلنكرمه في حياته، فما أهمية تكريمنا له بعد وفاته؟
وإن كان من ضرورة – وهي ضرورة بالفعل – تكريم سعدي يوسف، فإن هذا هو الوقت الأمثل والوحيد المتبقي لدينا لتكريمه، وإيصال صوت ولو ضعيف جدا له وهو على فراش المرض، أن هناك في هذه الأمة التي أفنيت عمرك تكتب وتترجم من الآداب العالمية إلى لغتها من يقدرك، ويثمن دور المبدعين في تطورها وإثراء ثقافتها.
الاحتفاء بشاعر كبير، أو بمثقف أو مبدع أو مفكر له وزنه على الساحة، ليس في الحقيقة احتفاء بشخصه، فالتكريم ليس متاجرة ولا مكافآت شخصية، بل تكريم هؤلاء هو تكريم للأجيال الحالية وللأجيال القادمة، فشاعر كبير كسعدي يوسف وهو في العقد التاسع من عمره، لا ينتظر تكريما ماديا أكثر مما يحتاج لتكريم معنوي، والاحتفاء بالمبدعين ليس من قبيل سداد دين لهم، بل هو احتفاء بأجيال المستقبل، بعطائه ومكانته التي يستحقها، ليصبح نبراسا وهاديا لهم، ومحط فخر وانتماء لهذه الأمة.
هكذا جوته الذي قاد الأدب الألماني، وفولتير الذي أشعل أدمغة مفكري فرنسا، وفيكتور هيجو الذي حمل مشعل الأدب الفرنسي للعالمية، وبودلير ورامبوا اللذان حولا الشعر الفرنسي إلي شعر عالمي، وتشارلز ديكنز، ووايتمان وغيرهم من المبدعين.
الاحتفاء بالمبدع هو ابراز لدوره ولدور الإبداع وأهميته، فالاحتفاء به ما هو إلا احتفاء بنا جميعا؛ لا شك أن تكريم المبدع خلال مرحلة من حياته يلعب دورا هاماً في تشجيعه وإعانته ودعمه لمواصلة إبداعه، لكن الاحتفاء به في أخريات أيامه هو احتفاء بالمقام الأدبي والثقافي والحضاري لهذه الأمة.
رحل درويش، فما الذي يمكن أن يقدمه له احتفاؤنا به، لكنه احتفاء بمدرسته وتجربته التي تركت بصماتها هادية للشعراء العرب بعده، رحل نجيب محفوظ، رحل صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، صلاح جاهين، رحل غيرهم كثيرون، ويبقى احتفاؤنا بهم هو احتفاء بما تركوه لنا لنتعلم منه وننطلق من تجاربهم لنصوغ تجاربنا الخاصة، مثقفو الأمم وكتابها ومبدعوها هم مشاعل الطريق، وعلينا أن نصون مشاعلنا لتنجينا من العتمة.
فلنحتفي بسعدي يوسف، ولنعيد التذكير والاحتفاء بالقامات الثقافية والأدبية التي صنعت عصرنا، لنحافظ على مدنيتنا وثقافتنا لامعة براقة أمام أجيالنا القادمة، خصوصاً وأننا نوشك أن نتحول إلى أمة بلا ملامح، باهتة قديمة الطراز مثل أثر عتيق في متحف البشرية.
وأنا من هنا، ومن خلال تلك الكلمات البسيطة، أدعو «حانة الشعراء» بما عرفت عنهم من اهتمام بالثقافة والفكر والإبداع، وبالمبدعين أيا كانوا، أدعوهم لتسليط الضوء على نتاج سعدي يوسف الأدبي والثقافي، وإعادة نشره، وأعود وأكرر، إنه الآن، والآن فقط وقت توجيه الأنظار لسعدي يوسف، وقت تكريمه وتقديره، كنوع من التقدير الذي نستحقه لأنفسنا ولثقافتنا.
بالفعل ،لا تكريم للمبدع الحقيقي في عالمنا العربي إلا من القليل جدا جدا من المقربين من الكاتب / الكاتبة ،بالرغم من العطاء والتنوير وإفناء العمر في مصلحة البلاد والعباد لكن التكريم لا يرتقي إلي مستوى المستحق.
إعجابإعجاب