اللوحة: الفنان الهولندي جان ستين
جسدي منمّل تمامًا، والأرض رخوة تحتي، ويد العسكري التي تمسك بمعصمي قطعة من القطن.
هكذا كان شعوري الحسي دون أدنى مبالغة حين كنت في المحكمة وأنا مقبوض عليّ في قضية شيك بدون رصيد أوقعني فيها زوجي الأول. والذي ضمنته في قرض من البنك بمئة ألف جنيه ووقَعت على شيكات بربع مليون جنيه.
لم أشعر أبدًا بهول الموقف الذي كنت فيه، ولم أفكر في ضياع مستقبلي، أو حتى في السجن الذي ينتظرني. كل ما كنت أفكر فيه ـ لحظتها ـ هي قصة الحب التي بدأت منذ أسبوع، والتي تركتني هكذا معلقة في الفضاء. أنا لا أتكلم بالمجاز، إنني أحكي عن شعور حسي حقيقي لف جسدي كله حتى حينما رأيت قفص الاتهام الذي كان من المفروض أن أقف بداخله، بدت لي أعمدته كظلال على الحائط ولم أفق إلاَّ على صوت المحامي وهو يجري وراءنا ويصرخ في العسكري:
ـ خلاص ياحضرة الصول، القاضي أعفاها من دخول القفص، ووافق على التصالح مع البنك.. الست دي بنت حلال والله.
كل هذا يحدث من حولى، وأنا ساهمة، عالقة في قصة الحب الجديد. إنها القصة ـ ذاتها ـ التي أخشى أن أمل حكايتها قبل أن أنجز هذا الكتاب فلطالما كنت نفس هذا الوجود الطائر كلما وقعت في قصة حب.
في كتاب ” شذرات من خطاب العشق ـ رولان بارت” يقول روسبروك: ” إنني معلق فقط، بعيدًا عن الأشياء الإنسانية بقرار تفاهة ضمني، لا أنتمي لأي قائمة ولا لأي مأوى.”
وهكذا كنت لا أشعر بوجود ابنتي ولا أقوى على الاستيقاظ مبكرًا لعمل الساندوتشات لها وهي ذاهبة إلى المدرسة، ومع ذلك كنت على استعداد للذهاب إلى آخر الدنيا، وعدم النوم مطلقًا إذا صادفت ما تصورته حبًا وقتها.
في ورشة (السايكو دراما) سألنا الطبيب وكان الدكتور خليل فاضل أستاذ الطب النفسي: من قعد على السحاب وأمسك النجوم بيديه؟.. رفعنا كلنا أيدينا فضحك وقال: جميعكم وقعتم في الغرام ولكن.. لم تعرفوا الحب.
بالطبع.. إنها حالة الوقوع في الذات، إنها الثرثرة الذهنية، هي التصورات الافتراضية، عزلة الذات العاشقة، خواؤها من أي شيء سوى تلك الصورة الذهنية التي كونتها عن الحب، أفقد اهتمامي بابنتي، بعملي بأقاربي وأظل أدور مع فكرة العشق، والتي يرى الطب النفسي أنها نوع من الوسواس القهري، أنحبس بداخله، ويمنعني من أي تواصل مع العالم الحقيقي، فأتحول إلى هذا الوجود الخفيف المهووس، يصبح العيش داخل المخيلة بينما الواقع يزداد تفككًا وانهيارًا تحت قدميّ.
الغرام في اللغة يأتي من غَرِمَ ـ غُرْماً وغرامة، ويُقال غَرِمَ الدِّيَّة والدين أي أداهما عن غيره، وفي التجارة خَسِر.َ والغرام يعني ـ أيضاًـ التعلق بالشيء تعلقاً لا يُستطاع التخلص منه، كما يعني العذاب المقيم وفي القرآن:”إن عذابها كان غرامًا“
إذن فالغرام هو حالة من القهر والخسران، يقول راسين:” ثمة خدعة في زمن العشق، هذه الخدعة تُدْعى قصة عشق لها بداية الحب الصاعق ونهاية انتحار، هجران، فقدان العاطفة، وانعزال ودير وسفر“
هذا النوع من الشعور فخ لغوي، استعارة دائمة .. إنني أحيا دائماً داخل تلك الاستعارات: بموت فيه.. أشعر بفقد دائم ويخمد صوت الحياة بداخلي إذا ابتعد عني، روح قلبي.. يكاد القلب يفقد نبضاته في حالة غيابه، بعده، هجرانه، إنه عقلي.. لا أفكر في أحد سواه.
لذلك أنسحق، أتلاشى ولا يحق لي الوجود بدونه، تتجمد مشاعري بمن حولي وتنقطع الروابط بيني وبينهم، أي أنني أُسْرَق تمامًا فيخف وجودي وبالتدريج، أتحول إلى حلم يحلمه الآخرون، بل أحلمه أنا بنفسي.
الهروب من الثِقل هوة الوجود البشري، هو وهمه. أوكما يقول لوك فيري: ” المتحرر من الثقل محروم من إغاثة العالم “. هكذا يقع المثاليون الذين يحلقون بأفكارهم وتصوراتهم بعيدًا عن الأرض في تلك الهوة.
لي صديق وصديقة أحبهما كثيرًا، لكنهما من ذلك النوع الذي يسكن في الأفكار، فيما ينبغي أن يكون، وليس فيما هو كائن. هما يحبان بعضهما جدًا، ولكنهما لا يعيشان الحب ذاته بل صورته، تلك الصورة التي نجدها في قصص الحب وأشعاره .. يؤرقهما كثيرًا إن كان ما يعيشانه الآن هو ما ينبغي أن يكون عليه الحب، وإذا كان الحب دافعًا للعمل والانتاج والابداع كما يقال عنه. فهل بقاؤهما هكذا، يضحكان ويمرحان ويستمتعان ببعضهما دون إنجاز أو إبداع دليل على عدم جدية ذلك الحب؟ كذلك لو أهمل أحدهما في مظهره، لو ظهرت أعراض السمنة على أي منهما ينزعج بشدة، ويتساءل بقلق: أهكذا يكون شكل المحبين!!
أتوقع: إن ظلاّ حبيسا تلك الصورة، سوف يختنق الحب كما حدث معي في زواجي الأول. فالحب لايعيش في ظل شروط تأتي من خارجه. عشت في بداية حياتي الزوجية سجينة تلك الصورة عن الحب، لكنها لم تكن ناضجة، تمامًا مثلما هي في رأسيّ صديقتي وحبيبها. كانت صورة ساذجة بما انطبعت في ذهني عن أفلام الأبيض والأسود القديمة. كان الحب لدىّ تضحية. فضحيت من أجل زوجي، ورهنت مرتبي للبنك، وكدت أسجن من أجل فكرة اسمها التضحية. ولأن الحب في الأفلام العربي هو مجرد قبلات وعناق، ظننت أن الزواج يكون هكذا، فكانت تصدمني رغبات زوجي الجنسية. هكذا عشت صورة مثالية عن الحب. ظاهرية وساذجة، أفرح بالهدايا، بالفسح والرحلات، ارتياد المطاعم الفاخرة. في الحقيقة، كان زوجي حفيًا بكل هذا، لزوم المظاهر المعتادة لرجل أعمال صغير. ولكنى ظننت أن هذا دليل حبه لي، وأنا بادلته نفس اللغة، اللغة المستخدمة في الأفلام.
يقول نيتشة: ” إن التلفظ بعبارة أحبك تقع في خانة الإنفاق، ومن يريد التلفظ بها؟ (الغنائيون ، الكاذبون والمتشردون) هم مستهلكو الكلام، إنهم ينفقون عبارة أحبك كما لو كانت سفيهة ووضيعة ومستعادة من مكان ما “.
ولا أقصد هنا اتهام نفسي بالكذب أو الزيف، ولكني أقصد أن هناك متسوقين من أدعياء الفن، يقفزون إلى شغف العاشق وتوقه، ليبيعونه تلك البضاعة من الكلمات والصور التي تزيده بؤسًا ووهمًا. وهكذا تقع ربات البيوت الجائعات عاطفيًا في أسر تلك الأفلام والمسلسلات والأغاني الرديئة التي تبيعهن كلمات وصورًا ومواقف للاستهلاك العاطفي. لذلك لم أمتلئ أبدًا وكنت أشعر وقتها بتعاسة خفية.
.. عمومًا..ليست السذاجة هي ما ضيعت الحب، ولكنها الصورة التي انحبستُ بداخلها، فقيدتني ولم تسمح لي بالنمو، ولاسمحت للحب بأن يتنفس ويعيش، منعتني من التواصل الحقيقي مع من أحب، منعتني من هضمه وصرت هذا المخلوق الخفيف. الذي لم ينتبه لمفردات الواقع اليومي. لتفاصيله الصغيرة ومتطلباته الحقيقية. مثلا: لم أكن أعتني بتجهيز الطعام لابنتي وهى ذاهبة للمدرسة، كنت أترك حقيبتها فارغة من السندويتشات، كنت ذاهلة عنها تمامًا ولم أر جسدها الصغير.. لم أكن قادرة على رؤية الأجساد الملتصقة بالأرض، ولا انتبه لاحتياجها إلى الدفء والطعام .. الطعام النفسي والبيولوجي.
نعم.. الطعام هو الحب. لذلك.. عندما لم أشبع أبدًا ولم أمتلئ بعد كل تجاربي العاطفية..عرفت أنني لم أحب مطلقًا. الآن فقط.. أفهم ما قصده الطبيب ( إن كنت خفيفا إلى هذه الدرجة فينبغي لك أن تطير، وإن كنت فارغًا والهواء يصفر في وجودك فما العجب في أن ترتقى السحاب وتذهب إلى أقصى التصورات بسرعة طيرانك!! )
أشير هنا إلى الثقل..
والذي عرفنا الآن أنه القدرة على الحب.. إنه همّ الأرض والحياة والبشر من حولنا.. لاتستطيع أن تحب ما لم تحمل الهمّ.. أن تعيش مهمومًا.. هذا هو الدليل على أنك تعيش.. لا يمكن لشخص ما أن يدخل جوفك ويطعمك ما لم تحمل همه، لا يمكن أن تأنس له وتحبه حقيقة مالم تشعر بالمسئولية تجاهه.