حسام أبو العلا

اللوحة: الفنان الإنجليزي لوك فيلد

انتقلت إلى منزل جديد، وكعادة البنايات الشاهقة لا تعرف أحدا من جيرانك إلا ربما من خلال اللقاءات المتكررة في المصعد، فلا أحد يرحب بالساكن الجديد ولا تجد من يبادر بمساعدتك، لكن الاستثناء الوحيد كان ذلك الرجل الطاعن في السن الذي يبدو من طريقة حديثه وملابسه أنه من جذور ريفية، ولم يغيره تبوء منصب كبير في جهة حكومية قبل خروجه على المعاش، شكرته ووعدته بأنه سيكون أول من ألجأ إليه.  

مرت الأيام واكتفينا فقط بتبادل السلام إن التقينا، ثم اندلعت مشاكل بين أبنائي وأبنائه، وأرغمته على صفع أحد ابنائه ثأرا لابني بعد أن هددته بأنني ساستغل نفوذي في تدمير مستقبل ابنه.

توقعت أن ضعف شخصيته أمام وقاحة أبنائه بسبب خوفه الشديد عليهم، فقد أنجبهم في سِنِّ متأخرة ما جعله يفرط في تدليلهم ويفقد احترامه أمامهم، كان يظهر في المشاكل مسلوب الإرادة ويعتذر للجيران عن همجية أبنائه الذين أصبحوا منبوذين من الجميع. 

 ألقى علىَّ السلام كثيرا عندما نلتقي، ولم يمل من تكراره لكني كنت بغرور اتجاهل الرد عليه. 

وبعفوية شديدة حاول ذات مرة تقبيل رأسي، وكرر اعتذاره فنهرته وطالبته ألا يفعل ذلك مجددا، في قرارة ذاتي كنت مقتنعا بطيبة هذا الرجل لكن صمته وانكساره وظهوره كالمهزوم إزاء تجاوزات أبنائه أكثر ما كان يشعرني بالغضب نحوه.

لاحظت غيابه عن الصلاة في المسجد عدة أيام، وعلمت أنه أصيب بجلطة في المخ، وبعد أن قررت زيارته تراجعت فقد كنت منتفخا بداء الكبر ولم استجب لتعاطفي مع ظروفه الصحية.

عدت من عملي متأخرا فرأيت سيارة إسعاف أمام العقار، انتظرت دقائق فوجدت جاري محمولا وفي حالة سيئة، صوت ألمه اخترق ضلوعي، ورشقني بنظرة تحمل معاني موجعة من اللوم والعتاب.

في هذه الليلة لم يغمض لي جفن ولم تفارقني نظرة جاري، أشفقت على هذا الرجل الذي هزمه حبه لأبنائه واكسبه عداوات بدون داع، وبَّخت نفسي لقسوتي عليه في وقت كان يحتاج فيه لمن يحنو عليه في مرضه.

عزمت أن أول ما سأفعله في الصباح هو زيارته في المستشفى وطلب السماح، ساعات وأطل النهار، وفي أثناء خروجي من العقار لمحت الحارس يعلق ورقة عن وفاة جاري وموعد العزاء.

---

صفحة الكاتب في حانة الشعراء

• قصة
• سرد