هناء غمراوي
اللوحة: الفنان التونسي نجيب بلحوجة
سأتحدث اليوم عن موضوع لفت نظري خلال إقامتي في هذه المدينة منذ ما يزيد عن السنة، وهو اللغة، نعم اللغة العربية بالذات، لغتي الأم التي أعشقها وافتخر بإتقانها. وقبل أن أذهب بعيداً في هذا الحديث سأتوقف عند عبارة غالباً ما تظهر عند الحديث عن اللغة؛ اللغة الأم.
لماذا نسمي اللغة الأولى التي يبدأ الإنسان من خلالها بالتعبير عن نفسه وحاجاته باللغة الأم؟
وما ارتباط ذلك بالأمومة؟
هل هو ارتباط نفسي؟ جسدي؟ عائلي؟ …
أنا لا أدّعي المعرفة بعلوم اللغة، وأصولها وجذورها. لذلك سأدخل إلى الموضوع من أبسط أبوابه وذلك عبر طرح بعض الأسئلة التي راودتني وأنا أتهيأ لكتابة هذا النص.
هل يمكن أن ترتقي علاقة الإنسان بلغته إلى مستوى علاقته بأمه؟
وللإجابة على هذا السؤال كنت بحاجة لتحليل بسيط، ولكنه مستند إلى تحليل علمي؛ وهو أن الطفل يبدأ بتكوين مخزونه اللغويّ في الأسابيع الأولى التي تلي ولادته وذلك عن طريق السمع. وهذه الحقيقة العلمية اكتشفتها الأمهات والجدّات ببساطة ومنذ زمنٍ بعيد، حيث كن يلجأن إلى الغناء للطفل أو التحدث معه ليهدئن من خوفه واضطرابه.
هذه اللغة التي اعتاد الطفل على سماعها منذ أسابيعه الأولى، والذي تعوّد أن يعبّر من خلالها ولو بحروف متشابكة أحياناً، ومتعثرة أحياناً أخرى خلال سنينه الأولى، ستكون المدماك الأول في بناء قلعة اللغة عنده، والذي لن يهتز مهما تعلم في المستقبل من لغات العالم.
هذه هي اللغة الأم؛ لأن الطفل تعلمها من خلال أمه أقرب إنسان إليه في الحياة. ومن الطبيعي أن يتعرف الإنسان فيما بعد إلى الكثير من البشر، ولكن ارتباطه بأمه يبقى الارتباط الأوثق والأقوى وكذلك هي علاقته باللغة، اللغة الأم؛ التي استقى الطفل موسيقى حروفها الأولى من صوت أمه، وكلماتها.
تلجأ بعض الأمهات في وطننا العربي، وكذلك بعض دور الحضانة إلى تلقين الأطفال وفي سن مبكرة جداً بعض المفردات باللغة الأجنبية اعتقاداً منهن أن ذلك سيساعدهم على تعلم وإتقان هذه اللغة. فترى الطفل في سن الثانية محتاراً كيف يعبر في الكلام عن وصف سيارته “اللعبة” هل يقول لك (my car)، أو يقول ببساطة: (سيارتي). فتصيب الطفل حالة من التردد والحيرة في اختيار الكلمات، ويحرمه ذلك لذة اللعب والاكتشاف في تلك المرحلة المبكرة من الطفولة. وقد يرافقه هذا التردد إلى مراحل متقدمة من عمره يمكن أن تؤثر على تحصيله العلمي في المستقبل.
بالعودة إلى نيويورك، هذه المدينة التي تكاد تحتوي على أكبر عدد من الجاليات الأجنبية في العالم، والتي تعتمد بالضرورة اللغة الإنكليزية كلغة رسمية في الدوائر العامة، والتعامل اليومي أيضاً. كيف توصلت إلى حل مشكلة اللغة بين ساكنيها في خضم هذا الخليط العجيب من الشعوب المتواجدة فيها؟
سأسرد حادثة حصلت معي لخصت لي الموضوع بكل بساطة. طلبت مني ابنتي، المقيمة في نيويورك من سنوات ان أتقدم لامتحان رسمي يجيز لي الحصول على إجازة قيادة السيارة في المدينة، باعتبار أنني حاصلة عليها في بلدي الأم. في البداية رفضت الموضوع بشدة وذلك لاعتبارات كان أهمها العائق اللغوي الذي سيعترضني أثناء الخضوع للامتحان. ولكنني وأمام إلحاحها الشديد وجدت نفسي بعد فترة وجيزة أقف في أحد مكاتب تعليم القيادة في المدينة، تديره سيدة أميركية من أصل يوناني. استطعت ومن خلال إنكليزيتي المتعثرة إفهامها أني ارغب بتقديم طلب عبر مكتبها للحصول على إجازة القيادة. شرحت لي أنني سأكون بحاجة لإجراء امتحانين؛ الأول نظري يتم على الحاسوب وهو عبارة عن خمسين سؤالاً مقسمة حول قواعد المرور، والسلامة العامة والإشارات المرورية المنتشرة على الطرقات. إذا تمكنت من اجتياز هذا الامتحان أتقدم للامتحان العملي وبعدها أحصل على الرخصة في القيادة. حصل كل ذلك وأنا أحسب في عقلي صعوبة المهمة التي ستعترضني في حفظ خمسين سؤالاً باللغة الانكليزية التي ما زلت أخطو بحذر على مسالكها. قبل أن تأخذني من شرودي وحيرتي قائلة بصوتٍ جازم: “بأي لغة تريدين اجراء الامتحان على الحاسوب”؟
وبسرعة أجبت وهل هذا ممكن؟ وأي اللغات متوفر لديك؟ وذهب فكري إلى اختيار اللغة الفرنسية باعتبار أني أتقنها بشكل أفضل من الانكليزية…
وبدأت بتعداد اللغات المتوفرة والتي يضيق المجال لذكرها، وعندما ذكرت اللغة العربية، قلت لها بسرعة؛ العربية من فضلك. وبسرعة عمدت إلى ماكينة النسخ وسحبت لي ورقتين تحتويان على الخمسين سؤالاً مطبوعة باللغة العربية، (لغتي الأم) … فحيازة رخصة القيادة لا يلزمها إتقان اللغة الانكليزية، وإنما معرفة أصول القيادة وقواعد السلامة العامة.
خرجت من المكتب وأنا أردد في سري: “شكرا نيويورك”.
في طريق عودتي إلى البيت، مر شريط من الذكريات في خاطري يعود إلى سنوات خلت عن حرب قدتها بشراسة على الفايسبوك تحديداً ضد الموجة التي سادت مع رواج التواصل الإلكتروني، ضد أشخاص تنكروا للغتهم الأم وبدأوا يستعملون لغة هجينة لا هي عربية ولا أجنبية. لغة تعتمد حروفا أجنبية لكلمات تنطق بالعربية. وآخرون بدأوا يسيئون للغة العربية بإدخال حروف زائدة عليها كإدخال الياء مثلاً على ضمير المخاطب أنتِ لتصبح (أنتي) أو استبدال حرف القاف بحرف (أ) فكلمة قلبي تصبح (ألبي) إلى ما هنالك من تشويه وإساءة للغة.!
لماذا نتنكر نحن العرب للغتنا العربية الجميلة، لغة القرآن الكريم ونحن في عقر دارنا. في حين تسعى شعوب أخرى للمحافظة على لغتها الأم، وفرضها على البلد المضيف كما هو الحال مع الجالية الإسبانية الموجودة هنا في نيويورك. والتي توصلت بفضل تمسكها بلغتها الأم إلى أن تفرض على الإدارة الأميركية تعيين مترجمين لأبناء الجالية الذين لا يتقنون الانكليزية، أو حتى السماح لهم في استعمال لغتهم الأم كلغة بديلة في التواصل وفي كافة الإدارات حتى الحكومية؟
وبالمناسبة، انا لا أدعو هنا إلى نبذ اللغات الأجنبية وعدم تعلمها؛ بل على العكس انا أحفز على ذلك وأزيد بأن إتقان اللغة الأم يساعد في تعلم اللغات الأجنبية لا بل وإتقانها لحد التميز. وهذا الكلام بالطبع ينسب إلى علماء متخصصين في علوم اللغة واللسانيات وليس لي.
آن الأوان لنعود إلى رشدنا، آن الأوان لنحس بأهميتنا وأهمية لغتنا.