اعتراف ذاتي

اعتراف ذاتي

محمود حمدون

اللوحة: الفنان السوري إسماعيل أبو ترابة

أدركت بعد سنوات أن المراوغة تأصّلت بين القوم، تعلّمت بمرور الوقت وتعاقب المحن، كيف أقرأ وجوههم وغيرهم، فإن التقيت أحدهم، تفحّصته، أبحث عن بادرة لخديعة تستقر بين عينيه، أو سحابة غدر تمر بلمح البصر بجبهته.

 لم يعد يغرّنّي سمت التقوى والصلاح المستقر بالعيون، تعاميت عن بريق المسابح بأيديهم واستغشيت ثيابي على رأسي حتى لا أسمع وقع ارتطام حبّاتها ببعضها وهي تختلط بحوقلة وأدعية تلهج بها ألسنتهم.

وبات ما بيني وبينهم كطريق سريع تمرق به مركبات من كل نوع، بينما أرقبها من مكاني على ” الرصيف ” أبصرهم في غدوهم ورواحهم، ينظرون هم إليّ بعيون قلقة.

عندما أنهيت حديثي، قال الطبيب: جميل أن تبدأ حوارك معي باعتراف ذاتي، أن تتخلّص من بعض وساوسك وهواجسك، تلك التي ربما تنغّص عليك بعض عيشك، ثم قال من جديد: أنظر يا صديقي العزيز، على رغم فارق عمر كبير بيننا يتجاوز عشرين سنة، لكنّك أصبحت أقرب إليّ من كثير من الناس، عايشتهم حتى ظننت…

 ثم توقف وعاد لحديثه بعد أن أوشك على البوح بما لا يجب، قال: لا تتمسك بشيء بشدة، فقط أتركه بعض الوقت فإن عاد إليك فهو لك وإن لم يعد فقد ذهب لصاحبه ولا أمل لك فيه.. هي حكمة يتداولها الناس، يتخذونها مطيّة للصبر على فوات الفرصة، لكنها صحيحة إلى حد ما..

فقاطعته وأعلم أنه يكره حد التحريم من يُعيد عليه كلامه أو ينقض فكرة يروّج لها بين القوم: شريطة ذلك أن يكون هذا الشيء في يدك، ملك يمينك، فإن لم يكن فهو أقرب لُحلم، العض عليه بالنواجذ سنة ترتقي لمرتبة الفرض.. فإن أفلت من بين أصابعك، أصبح كبيرة لا تغتفر…

فأمّن على كلامي وهز رأسه، غادرني وهو يخاطب الفراغ: سلام على من أدرك وصوّب، والغفران لمن تجاوز دون وعي.

بلاغ رسمي

مجنونًا أو معتوهًا، أو.. عموما لم تعد تغرينا فكرة البحث عن الوصف الصحيح لحالته،فقد رأيناه مختلفا في كل شيئ، ملبسه، طريقة تناوله للطعام على قارعة الطريق، نومه في العراء صيفا وشتاءً، السير حافي القدمين، الهذيان، ثم تفرّده بعيدا عن الجميع بالغناء طول اليوم.

الأربعاء الماضي ظهر آخر بنفس الهيئة،غرابة الأطوار، انضم لصاحبه ثم راحا يتسامران ليل نهار ينظران لنا نظرة عاقلين لمجانين تحيط بهما.

ثم قاما ظهر أمس بتقديم بلاغ رسمي بقسم الشرطة يزعمان فيه أن لوثة عقلية أصابتنا نحن، أنهما يخشيا على نفسيهما من وجودهما بيننا، بحلول المساء أتت السلطات،أحاطت سكان الحي بسور حديدي مرتفع، يسمح بالكاد بمرور الهواء والضوء.

رأيان على “اعتراف ذاتي

  1. عندما يراوغ النص قارئه، ويتلاعب بوعيه تجاه مفاهيم ومعتقدات سائدة، إذن فقد نجح كاتبه في طرح فكرته واختيار مفرداته.
    فمنذ الوهلة الأولى للقراءة بدءاً من العنوان (اعتراف ذاتي) سيتوقع المتلقي اعترافا صريحا، ولكن يلاحقه السرد بعكس توقعه تدريجيا، وهي سمة غالبة في كتابات محمود حمدون التي تتسم بفلسفة حياتية ذاتية، يشاركها مع متلقيه لتبديد ضبابية الواقع المفروض بإعلان خفي لمخاوف وكوابيس لصيقة بوعينا.
    حيث تبدأ القصة بشكوك السارد فيما يراه من وجوه ونوايا حدّ المراقبة من مكان قصيّ، بينما يمتنع الطبيب – الصديق- عن البوح ربما لشدة خصوصية رأيه أو خوفا من إغضاب الشاكي. واستبدل الطبيب بوحه بالنصيحة بمفهوم متفشي بالمجتمع (لا تتمسك بشيء بشدة، فقط أتركه بعض الوقت فإن عاد إليك فهو لك وإن لم يعد فقد ذهب لصاحبه ولا أمل لك فيه).
    وحين طرح السارد فلسفته الذاتية رغم يقينه أن محدثه (يكره حد التحريم من يُعيد عليه كلامه أو ينقض فكرة يروّج لها)، عندئذ ردخ الطبيب (سلام على من أدرك وصوّب، والغفران لمن تجاوز دون وعي)، عندئذ يدرك المتلقي أن (الإعتراف) لم يكن اعتراف للشاكي وإنما لطبيبه. حينئذ يتكشف فرض السرد قبضته على وعي المتلقي، ليلقنه درساً فلسفياً من أجل إصلاح ما أفسده الجهل بمقومات الحياة.
    سعاد الزامك
    روائية وكاتبة مصرية
    26/6/2021

    إعجاب

اترك تعليقًا على سعاد الزامك إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.