قصة قصيدة – «الأرملة المرضعة» للشاعر معروف الرصافي

قصة قصيدة – «الأرملة المرضعة» للشاعر معروف الرصافي

اللوحة: الفنان الإيطالي لويجي دا ريوس

كان الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي جالسًا في دكان صديقه محمد علي في بغداد، وإذا بامرأة محجبة، يوحي منظرها العام بأنها فقيرة تحمل صحنًا، وسألت صاحبه بالإشارة: كم فلس ثمن هذا الصحن؟ لكن صاحب الدكان خرج إليها وحدثها همسًا، فانصرفت المرأة الفقيرة.

فحير الرصافي تصرف السيدة الفقيرة، وتصرف صاحبه معها همسًا، فاستفسر من صديقه عنها، فقال له:

إنها أرملة تعيل يتيمين، وهم الآن جياع، وتريد أن ترهن الصحن بأربعة فلوس كي تشتري لهما خبزًا، فما كان من الرصافي إلا أن لحق بها ليعطيها اثني عشر قرشًا كان كل ما يملكه الرصافي في جيبه، فأخذت السيدة الأرملة القروش وهي في حالة تردد وحياء، وسلمت الصحن للرصافي وهي تقول: “الله يرضى عليك تفضل وخذ الصحن”، فرفض الرصافي وغادرها عائدًا إلى دكان صديقه، وقلبه يعتصر من الألم.

عاد الرصافي إلى بيته، ولم يستطع النوم ليلتها، فكتب هذه القصيدة:

لَقِيتُها لَيْتَنِي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَا

تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَا

أَثْوَابُهَا رَثَّةٌ والرِّجْلُ حَافِيَةٌ

وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَا

بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا

وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَا

مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا

فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَا

المَوْتُ أَفْجَعَهَا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا

وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَا

فَمَنْظَرُ الحُزْنِ مَشْهُودٌ بِمَنْظَرِهَا

وَالبُؤْسُ مَرْآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَا

كَرُّ الجَدِيدَيْنِ قَدْ أَبْلَى عَبَاءَتَهَا

فَانْشَقَّ أَسْفَلُهَا وَانْشَقَّ أَعْلاَهَا

وَمَزَّقَ الدَّهْرُ، وَيْلَ الدَّهْرِ، مِئْزَرَهَا

حَتَّى بَدَا مِنْ شُقُوقِ الثَّوْبِ جَنْبَاهَا

تَمْشِي بِأَطْمَارِهَا وَالبَرْدُ يَلْسَعُهَا

كَأَنَّهُ عَقْرَبٌ شَالَتْ زُبَانَاهَا

حَتَّى غَدَا جِسْمُهَا بِالبَرْدِ مُرْتَجِفَاً

كَالغُصْنِ في الرِّيحِ وَاصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا

تَمْشِي وَتَحْمِلُ بِاليُسْرَى وَلِيدَتَهَا

حَمْلاً عَلَى الصَّدْرِ مَدْعُومَاً بِيُمْنَاهَا

قَدْ قَمَّطَتْهَا بِأَهْدَامٍ مُمَزَّقَةٍ

في العَيْنِ مَنْشَرُهَا سَمْجٌ وَمَطْوَاهَا

مَا أَنْسَ لا أنْسَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُهَا

تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَا

تَقُولُ يَا رَبِّ، لا تَتْرُكْ بِلاَ لَبَنٍ

هَذِي الرَّضِيعَةَ وَارْحَمْنِي وَإيَاهَا

مَا تَصْنَعُ الأُمُّ في تَرْبِيبِ طِفْلَتِهَا

إِنْ مَسَّهَا الضُّرُّ حَتَّى جَفَّ ثَدْيَاهَا

يَا رَبِّ مَا حِيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ

كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَا

مَا بَالُهَا وَهْيَ طُولَ اللَّيْلِ بَاكِيَةٌ

وَالأُمُّ سَاهِرَةٌ تَبْكِي لِمَبْكَاهَا

يَكَادُ يَنْقَدُّ قَلْبِي حِينَ أَنْظُرُهَا

تَبْكِي وَتَفْتَحُ لِي مِنْ جُوعِهَا فَاهَا

وَيْلُمِّهَا طِفْلَةً بَاتَتْ مُرَوَّعَةً

وَبِتُّ مِنْ حَوْلِهَا في اللَّيْلِ أَرْعَاهَا

تَبْكِي لِتَشْكُوَ مِنْ دَاءٍ أَلَمَّ بِهَا

وَلَسْتُ أَفْهَمُ مِنْهَا كُنْهَ شَكْوَاهَا

قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَا

وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيَّ السُّقْمِ آذَاهَا

وَيْحَ ابْنَتِي إِنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ روَّعَها

بِالفَقْرِ وَاليُتْمِ، آهَاً مِنْهُمَا آهَا

كَانَتْ مُصِيبَتُهَا بِالفَقْرِ وَاحَدَةً

وَمَوْتُ وَالِدِهَا بِاليُتْمِ ثَنَّاهَا

هَذَا الذي في طَرِيقِي كُنْتُ أَسْمَعُهُ

مِنْهَا فَأَثَّرَ في نَفْسِي وَأَشْجَاهَا

حَتَّى دَنَوْتُ إلَيْهَا وَهْيَ مَاشِيَةٌ

وَأَدْمُعِي أَوْسَعَتْ في الخَدِّ مَجْرَاهَا

وَقُلْتُ: يَا أُخْتُ مَهْلاً إِنَّنِي رَجُلٌ

أُشَارِكُ النَّاسَ طُرَّاً في بَلاَيَاهَا

سَمِعْتُ يَا أُخْتُ شَكْوَى تَهْمِسِينَ بِهَا

في قَالَةٍ أَوْجَعَتْ قَلْبِي بِفَحْوَاهَا

هَلْ تَسْمَحُ الأُخْتُ لِي أَنِّي أُشَاطِرُهَا

مَا في يَدِي الآنَ أَسْتَرْضِي بِهِ اللهَ

ثُمَّ اجْتَذَبْتُ لَهَا مِنْ جَيْبِ مِلْحَفَتِي

دَرَاهِمَاً كُنْتُ أَسْتَبْقِي بَقَايَاهَا

وَقُلْتُ يَا أُخْتُ أَرْجُو مِنْكِ تَكْرِمَتِي

بِأَخْذِهَا دُونَ مَا مَنٍّ تَغَشَّاهَا

فَأَرْسَلَتْ نَظْرَةً رَعْشَاءَ رَاجِفَةً

تَرْمِي السِّهَامَ وَقَلْبِي مِنْ رَمَايَاهَا

وَأَخْرَجَتْ زَفَرَاتٍ مِنْ جَوَانِحِهَا

كَالنَّارِ تَصْعَدُ مِنْ أَعْمَاقِ أَحْشَاهَا

وَأَجْهَشَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَهْيَ بَاكِيَةٌ

وَاهَاً لِمِثْلِكَ مِنْ ذِي رِقَّةٍ وَاهَا

لَوْ عَمَّ في النَّاسِ حِسٌّ مِثْلُ حِسِّكَ لِي

مَا تَاهَ في فَلَوَاتِ الفَقْرِ مَنْ تَاهَا

أَوْ كَانَ في النَّاسِ إِنْصَافٌ وَمَرْحَمَةٌ

لَمْ تَشْكُ أَرْمَلَةٌ ضَنْكَاً بِدُنْيَاهَا

هَذِي حِكَايَةُ حَالٍ جِئْتُ أَذْكُرُهَا

وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى الأَحْرَارَ فَحْوَاهَا

أَوْلَى الأَنَامِ بِعَطْفِ النَّاسِ أَرْمَلَةٌ

وَأَشْرَفُ النَّاسِ مَنْ بِالمَالِ وَاسَاهَا


الوَرْسِ: نبت أصفر يصبغ به.

شَالَتْ: ارتفعت – الزبانة: ذنب العقرب

تربيب: تربية.

ويلمها: أصله ويل لأمها.

ملحفتي: الرداء الذي أرتديه فوق ملابسي.

3 آراء على “قصة قصيدة – «الأرملة المرضعة» للشاعر معروف الرصافي

اترك تعليقًا على غير معروف إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.