عبد الرقيب الوصابي
اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
إلى الصديقِ الشاهقِ إبداعاً لطف الصُّراري / في زمنِ الحربِ؛ بعدَ قراءتي مجموعتهُ القصصية “الرجاء عدم القصف”.
إنها الحربُ التي متنا فيها أكثر من مرة، وفي كل مرة كنا نموتُ موتاً مختلفاً، إنها الحربُ التي لم نحيَ فيها أبداً، سَبعُ سنواتٍ عِجافٍ من الحَربِ تسللتِ الهزيمةُ إلينا في لَيالٍ بلا أقمارٍ، ونهاراتٍ شمسها متواطئةٌ؛ ولا شيءَ سوى الحربِ؛ هذهِ اللعنةُ التي لا تتقنُ غيرَ الإطاحةِ والإحاطةِ بنا والنَّيلِ مِنا وهلِ الحربُ إلا ما عَلِمتُم وذُقتُمُ!.
لقد صارتِ هذهِ الحربُ بِداخِلِنَا خليةً سرطانيةً تنمو عميقاً وتنقسمُ في اليومِ الواحدِ آلافَ الانقساماتِ؛ جبهاتٌ عديدةٌ نقتلُ فيها وبدونِ أيِّ جريرةٍ نُدانُ بها وبدونِ أن نعرفَ حتى السببَ الحقيقيَّ وراءَ كلِّ هذا الدَّمِ المَسفُوكِ.
الآنَ صرنا نخوض حربين؛ حربٌ مع الخارج مع هؤلاء الذين يرفضون أن تتجدد خصوبتنا وحربٌ في الداخلِ العَميقِ فينا طَمعاً في الحَياةِ والحُبِّ والإبداع.
وفي الحروبِ يصبحُ اللصوصُ وقاطعُ الطرقِ ورفاقُ السلاحِ القدامى المتحكمونَ واللاعبونَ الرئيسيونَ في أقدارِ الناسِ، وأجسادهم، وأعصابهم، وضغطِ دمهم، وشرايينهم، ونسبةِ السكرِ في دمائهم وكذلك سيولتهُ في عروقهم وتَجَلُطَاتِهِم وحينئذٍ يواصلُ الخرابُ طريقَهُ إلى كلِ شيءٍ والدمارُ يستمرُ.
هذه الحرب خرجت عن مسارها؛ مثل كل حرب، يظهر فيها القَوَّادُونَ والنَّخاسُونَ والقَتلةِ ويتحالفونَ على القضايا النبيلةِ بقتلِ الأطفالِ وترويعِ الآمنينَ وإدانةِ الحبِّ والإبداعِ، فكيفَ نُمسكُ الحياةَ في قلبِ الموتِ؛ وكيفَ نُقَسِّمُ الموتَ إلى آلافِ القِطَعِ والأجزاءِ في بـَلَدٍ صارت مثلَ كبدٍ مُصابٍ بفيروسِ سي يتضخمُ يَوماً بَعدَ يَومٍ؛ شَوارعُ وأحياءٌ سَكنيةٌ تُرضِعُ العابرينَ مياهَ الحقدِ والكراهيةِ؛ وبينما نَبتَذِلُ الحبَ ونحارِبُ الإبداعَ يُواصلُ الخَرابُ طَريقَهُ إلى كلِّ شيءٍ والدَّمارُ مستمرٌ..
هكذا هي الحربُ إذن، هذه اللعنةُ اللعينةُ، والطعنةُ الغادرةُ التي جعلتِ السعيدةُ؛ مجردَ قريةٍ معزولةٍ يحكمها معتوهون، وناقصو عقلٍ، وخصيٍّ ومُنحلونَ وجبابرةٌ وقتلةٌ يسفكونَ دماء الآلافِ ويتبرعونَ لبناءِ المساجدِ ودورِ العبادة.
لَكم هو عجِيبٌ هذا البلدُ الذي يبتذلُ الحبَ ويدينهُ، لكأنهُ يرغبُ دائماً أن يفنى؛ ودائماً ما يخرجُ ضدَّ نفسِهِ؛ يؤيدُ قاتليهِ ويحتفي بجلاديهِ؛ يخرجُ في الزمنِ الخطأ لإدانةِ الحبِّ والإبداعِ مقترحاً تأييدَ الحربِ والموتِ؛ بَينَمَا يزدادُ العالمُ تفاهةً والهواءُ يَقِلُّ.
وحدهُ الحبُّ من سيوفر لنا الوطنَ الذي يحمينا من همزاتِ الشياطينِ ورؤوسِهِا كذلك؛ وهو وحدهُ القادرُ على محو اللونِ الكـحليِّ من حياتنا، اللونُ الكُحلِيُّ الذي انتزعَ من أروَاحِنَا كُلَّ مَلامِحِ لَحظةَ امتزاجِ الأحمرِ/الدمِ المُراقِ بِرَمَادِ الحَرائقِ المُشتَعِلَةِ في كُلِّ أرجاءِ الوطنِ الحبيبِ.
ووحدهُ الإبداعُ الأصيلُ السببُ الرئيسيُّ لوفرةِ خُصُوبَتِنَا واستِصلَاحِ أرحامِ النساءِ في زمنِ الحَربِ والجوائحِ المتعاقبةِ.