اللوحة: الفنان الإنجليزي هنري فوسيلي
لأنه رجل مهذب، راح يختلس النظرات حوله، ليستكشف ما إذا كانت عطسته، تلك التي هتكت حاجز الصمت في القاعة، قد عكرت صفو أحدهم في المسرح.
ضغطه الحرَج..
لملم أنفاسه وجمع وجهه في كفيه خجلاً…
العجوز الجالس أمامه يغمغمُ في ضجَر…
العجوز يتحسس رقبته مرتبكا بكلتا يديه، يمسح صلعته، تلك التي بدت قاتمة تحت الأضواء الخافته، فلست تدري إن كانت تلك صلعة قد اتسعت بفعل عوامل التعرية، أم هي قفاً مفلطحٌ فاض حتى سال على جبهة الرجل…
لكن..
لماذا يجلد “إيفان”- بطل قصة “تشيخوف” نفسه بكل هذا الشعور بالذنب؟ أليس العطس حقاً طبيعياً ومشروعاً من حقوق الإنسان؟
الرئيس الأمريكي يعطس… أضعف عجوز أفغاني أو عراقي أو سوري سحقه عطس القنابل الأمريكية المتوحشة كما سحق دياره وأبناءه بزعم القضاء على الإرهاب – يعطس.. أفقر سكان بيوت الصفيح في عشوائيات القاهرة، يعطس، أكبر لصوص مصر وذيولهم من “كومبارس” الطبالين والمنافقين – يعطس.
لم تغادر “إيفان” مشاعرُ الحرج والرغبة الملحة في الاعتذار…
العجوز الجالس أمام “إيفان” المسكين، هو الجنرال المهم، المسئول في مصلحة السكة الحديد الروسية…
قرر “إيفان” أن يعتذر إليه..
يعني…
ليس جبناً ولا خوفاً… بل هي اللياقة ليس إلا… مال قريباً من أذن الجنرال وهو يحاول السيطرة على أنفاسه المرتبكة…
همس: عذراً يا صاحب السعادة.. لم أقصد…
بربع عينه اليسرى أجاب الجنرال: خلاص خلاص.. لا شيء.
أسرع “إيفان” الموظف الصغير: أستحلفكم بالله يا سيدي.. لم أكن…!!
رد بغضب: أووهْ.. أريد أن أتابع المسرحية.
انحشرت الألفاظ في حنجرة “إيفان”…
تغلب على لسانه الملتصق بأعلى الحنك… انتهى صوته في ترددٍ إلى أُذن الرجل: إني ليحزُنني ما حدث.. يا ليتني مت قبل هذا.. كم أودُّ…!
قذفه بنظرة متأففة..
عقب: عجيبٌ.. مازلت تعتذر؟ أنا نسيت.. نسيت!
ضربته موجةٌ من الهم.. إيفان لا يستطيع أن ينسى..
فضفض إلى زوجته.. انزعجت..
نصحته بقوة أن يعتذر إليه في مكتبه…
تحمس للفكرة.. فرصة لتوضيح الأمر!
قص شاربه وتأنق في حلته…
انحشر مع زحمة المراجعين في ردهة المكتب حتى دخل الجنرال…
بادره: بالأمس لو تذكرون يا سيدي…!
هاج الجنرال: يا للتفاهة.. هل بقي ناس كهذا؟ أنا نسيت.. نسيت.. انصرف إلى شأنك.. اذهب!
قال في نفسه: أذهب؟ الجنرال غاضب منذ الأمس.. لا بأس.. سأنتظر هنا ريثما يهدأ، ثم أفاتحه من جديد.. مستحيل أن أترك الأمر هكذا!
راح يتفرس وجه الجنرال مختلساً إليه النظرات.. بدت لحظة مناسبة… اتجه إليه..
عَفْ.. عفواً يا صا.. يا صاحب السعادة..!
ليس تجاسري الآن إلا من فرط الشعور بالأسف لما حدث لكم والرغبة في إرضائكم.. والله العظيم، والله العظيم لم أكن أقصد…!
صرخ الجنرال: مستحيل.. من أي تركيبة أنت؟ أتسخر مني؟
اختفى الجنرال خلف الباب تجتاحه حالة من الهياج والاشمئزاز..
شغل نفسه بمُراجِع آخر..
غطرسة غير محتملة.. غمغم “إيفان”..
قرصه الحزن المر..
خرج مكسور القلب.. منكس الجبين..
وقف عند باب المكتب.
شعر كأنه يسمع طقطقة كيانِه يتهدم..
طفـَتْ على خاطره فكرة جديدة..
قال وهو يحدث نفسه: آه.. أكتب إليه اعتذاراً مفصلاً، ألقيه غداً في يده بسرعةٍ وصمْتٍ، ثم لا أعود.
لم يكد الجنرال يلمحه ما يزال واقفاً، حتى انفجر كالعاصفة..
– أيها الحرس.. ألقوا هذا التافه في الشارع…!
انكسر شيء في وجدان “إيفان”..
جرجر أقدامه يحاول بلوغ منزله.. أشباح المارة تترنح وسط أشباح السيارات… غامت في عيونه الرؤى..
لم يكد يكمل خلع ملابسه، حتى سقط على أريكةٍ، ومات…!
وبعد – عزيزي القارئ- فإذا كنت قد قرأت هذه القصة التي لخصتها لك من أمير القصة السوفييتية القصيرة “تشيخوف”، فسوف تنعقد في ذهنك مشابهة مدهشة، بين الواقع التعيس للسياسة العربية، ومأساة “إيفان” هذا.. فمع أن العطس حق ثابت من حقوق الإنسان، ومع أننا مع ذلك، لم نعطس في قفا أمريكا ولا إسرائيل، ولا حتى “موزنبيق”، فإن اعتذاراتنا عن الذنوب التي لم نرتكبها، وانحناءاتنا الذليلة عند العتبات العالية، نقسم على الولاء والتطبيع، و”نتوسل”.. أصبح كل ذلك عندنا عقدة نفسية بلا حل، وأصبح اعتياد وجوهنا لوحل الإهانة، وتلويث السمعة، وسُبّة الأبد.. أصبح التفرج الذليل الأصم، على نهر الدم العربيّ الذي يوشك أن يغطي خريطتنا، أمراً معتاداً، كأننا بعيدون عن الخطر، وكأننا نجهل أن الأقدام الضخمة للفيل، حين تحطم مدن النمل، لا تفرق بين نملة في المركز، وأخرى في الضواحي، أو بين أكواخ يقتلها الجوع، وقصور تقتلها التخمة.
لن نستطيع – عزيزي القارئ – أن نشق طريقنا إلى شيء.. أي شيء، إلا إذا تعلمنا ما لم تتعلمه ألواح الخشب، إذ تزعم – والنجار ما يزال على المنشار يدفعها من قفاها إلى مصيرها الملعون- أنها هي التي تشق طريقها، فتكشف للمنشار عما في صدرها، وعما ليس في صدرها.
يبدو أن علينا – عزيزي القارئ – أن نعيد الاتفاق مع أنفسنا الآن من جديد لكي نحدد بحسم، مفهوم “الموت” ونحدد مفهوم “الحياة” أيضا، حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة، ولنعلم من الذي مات بإسْفِكْسيا الذل، وإن بقي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولننحني حتى تلامس جباهنا الأرض، إجلالاً لكل قطرة دم تراق من أجل تحرير إرادة الشعوب من قبضة جلاديها واحتراماً لشموخ أناس لا تملك إلا نفسها.. إلا روحها، ولذلك فإنهم يجعلونها قنبلة تتفجر فى وجه الطغاة والمستكبرين ومن يريدون الأرض العربية، ثم في وجه الغطرسة الصهيونية وأوهام الأمن الإسرائيلي، حتى تنتقم للأقصى… وتنتقم لكل طفل يموت جوعًا، ولكل شيخ يموت قهرا، ولكل امرأة تموت حزنًا، ثم ينضمون إلى الموكب الجليل للشهداء، على وجوههم ابتسامة السماء، وعلى محاجرِهم دمعةٌ على موتِ المُعتصم، وصمتِ العواصم.