محمد عبد الرحمن شحاتة
اللوحة: الفنان الفرنسي جول باستيان ليباج
في الشَّارعِ اشتَعَلَتْ جِراحٌ
في العَرَاءِ
تَجَمَّدَتْ قَدَمٌ
على ثَلجِ الطَّريقِ
العُمرُ..
آخِرُ ما يُعَدُّ على الأصابِعِ
ذِكرياتُ طُفُولَةٍ
وحَنينُ مَن سَبَقوا
إلى ما يَستَحيلُ بِهِ الرُّجوعُ
الأرضُ
تَحتَكَ جَمرَةٌ
والكونُ حَولَكَ يَستَديرْ
أُصغِي لِوَجهِكَ
واكتِمالِ الحُزنِ في عَينيكَ
أنتَ
كَما تَشاءُ لَكَ القَصائدُ
أنْ تَبوحَ
كَما تَشاءُ لَكَ الشَّوارِعُ
أنْ تَسيرْ
مَاذا تُخَبِّيءُ خَلفَ ظَهرِكَ؟
خُبزَ يَومِكَ
أمْ تَجَلِّيكَ المؤَقَّتَ في المَساءِ
لَطَالَمَا
أشفَقتُ مِنكَ عَليكَ
يا شَغَفي عَليكْ
فالشَّمسُ
تُشبِهُ مُقلَتَيكْ
مِن أيِّ أرضٍ جِئتَ؟
مِن غَيبِ المَسافاتِ البعيدةِ
مِن قَتامِ الجُبِّ
مِن بَحرِ الظَّلامْ
تَمشي
ويُخطِئكَ الزِّحامْ
تَمشي
وروحُكَ لا قرينَ لها سوى
خَفقِ اليَمامْ
بالأمسِ
كُنتَ
ولَم يَكُنْ إلا الشِّتاءْ
كانَ الرَّصيفُ
مَرايةً للعابرينَ
وكُنتَ وحدَكَ
تبذُرُ المَعنى
لتحرُثَ عِندَ آخرِ عابرٍ
شَغَفَ الغِناءْ
لا اللَّيلُ يُخفي حُزنَ قلبِكَ
خلفَ رَونَقِ نَجمةٍ
أو يصطفيكَ كشاعِرٍ
ضَلَّتْ خُطاهُ الحرفَ
فاحتَرَفَ البُكاءْ
لِشحوبِ مِعطَفِكَ القَديمِ
حِكايةٌ أُخرى
تَخَيّلْ
أنْ تَموتَ نَضارةُ الرَّيحانِ
تَذبلَ
ثَمَّ رائحةٌ سَتَبقى
كُلَّمَا مرَّتْ رياحُ العُمرِ
عَبَّقَتِ المَكانْ
وكذا بمِعطَفِكَ الوَحيدِ
حِكايةٌ لا تَنتَهي
تُتلى عَلَينا
مِثلَمَا
تُتلى أساطيرُ الزَّمانْ
طابَتْ خُطاكَ
وطِبتَ يا هذا الشَّريدْ
ضاقَتْ عليكَ الأرضُ
في المَنفى البَعيدْ
لَستَ المُشَرَّدَ
إنَّما هذي الوجوهُ شَريدَةٌ
ودُموعُ عَينَيها جَليدْ
أوتَارُ كلِّ العازفينَ
تُجيدُ رَسمَ حِكايَتَكْ
مَن عَلَّمَ الأوتَارَ تَعزِفُ قِصَّتَكْ
قَد لا تَرى الأحلامَ
فالأحلامُ حَلوى المُترَفينْ
والحُلمُ في الطُّرقاتِ
لا مأوى لهُ
إذ إنَّ في الطُرقاتِ
لا مأوى سوى للمُتعبينْ
ليلًا
أصافِحُ قلبَكَ المغروسَ فِي صَدرِ الرَّصيفْ
فالعابرونَ
على ضِفافِ الحُلمِ أشجارٌ يُمزِّقُها الخَريفْ
عُتباكَ يا هذا الشَّتاتْ
يَمشي خَفيفَ الظِّلِ
يَخشاهُ المَمَاتْ
ويقولُ:
غَنَّيتُ
الشَّوارعُ في لَهيبِ القَيظِ تَحرِقُ أُغنياتِ
الهاربينَ إلى السُّباتْ
والعائدينَ مِنَ السُّباتْ
وكذا
حواديتُ الطُّفولَةِ
حينَ أذكرُها فَتَصحو الأُمنياتْ
فَلِخُبزِ أُمّي ذِكرَياتْ
وَلسَقفِ مَنزِلِنا الذي ضَيَّعتُهُ
وأضَاعَني
ظِلٌّ يُصارعُهُ المَواتْ
مَعزُوفَتي يا نايُ
بَحَّةُ صَوتيَ المَطعونِ مِن سَيفٍ يُباغِتُني
ويَسكنُ بينَ ضِلعينِ
ابتساماتي
بزوغُ الزَّيفِ في وجهِ المَرايا
في أيِّ لَيلٍ بَعثَرتني الرِّيحُ
وانطفأتْ رؤايا؟
ضَوءُ القَناديلِ امتدادُ الدَّمعِ في عينِ الغَريبْ
وبُرودَةُ الإسفلتِ
تَدفَعُنا لأوَّلِ عَطفةٍ
لننامَ في رُكنٍ مِنَ الأركانِ
نلتَحِفُ العَراءَ
نَغيبُ نَحنُ كَمَا أتى هَذا المَغيبْ
يا هذهِ الشُّرفَاتُ رِفقًا
لا تنامي الآنَ
إنّي ساهِرٌ حَتَّى الصَّباحْ
أُصغي إلى الضَّحِكاتِ
والوَلدِ الذي قال:
امنَحوني كَعكةً أُخرى وأمعنَ في الصِّياحْ
يا هذهِ الشُّرفاتُ لا نَومٌ يَجيءُ
النَّومُ قَد ضلَّ الطَّريقْ
هيَّا امنَحينِي قَشَّةً
تُنجي مِنَ الطُّوفانِ تَنتَشِلُ الغَريقْ
كُلُّ الفَرَاشِ يطيرُ نَحوَ رَحيقهِ
وهُنا فَرَاشُ الليلِ
لَمْ يَجدِ الرَّحيقْ
مَعزُوفَتي وَجهي
وبَعضُ ملامِحي السَّمراءِ
ثَوبٌ
يَحمِلُ الأيّامَ بَينَ خُيوطِهِ
رُقَعًا
وآلامًا
ويَحمِلُ قلبَ طِفلٍ
لَمْ يَذُقْ عَزفَ الطُّفولَةْ
باعَ المَنَاديلَ / الوُرودَ
على الإشارةِ
في الزِّحامِ
وظلَّ يَعبرُ مِن هُناكَ إلى هُنا
ويظلُّ يَهدِرُ مَثلَ آلَةْ
مَعزوفَتي ظَلَّت تُراوِدُ خاطِري
وأنا أرىَ الوَلدَ الشَّريدَ
يَغيبُ مثلَ الشَّمسِ
يَرحلُ هادِئًا
ويَجرُّ مُمتَنًّا خَيَالَهْ
الله الله الله
إعجابإعجاب