اللوحة: الفنان المصري فاروق حسني
من العبارات الخالدة التي لا زت أذكرها على لسان قائلها “أبو جودة”، طيّب الله ثراه، فمن المؤكد أنه توّفّي من سنوات بعيدة، إذ عرفته هرمًا شيخًا تجاوز السبعين وقتها.
ذات يوم كنت أجلس في الكرسي القابع وراءه، حينما شرد بعينه بعيدًا، يرقب امرأة تقود قطيعا من المواشي، تعبر نهر الطريق بجرأة ملحوظة، فتوقف حتى يخلو الطريق، تنهّد وقال بصوت مسموع: يكره الرجل المرأة العنيدة، لكنه يدور في فلكها، يخشى الاقتراب منها، يخاف البُعد عنها.. سعل بشدة، وأكمل حديثه: هي أمّنا “حواء” بصبرها على أبينا القديم، حتى لانت عريكته أمامها، ومال لرأيها، تنهّد ونظر أمامه حتى ظننته كان حاضرًا ذروة الجدل بينهما .
عبث بجيب بنطاله، نزع بمهارة وهو يقبض بشدة على مقود السيارة بيد واحدة، آخر سيجارة من علبته، كوّر العُلبة وألقاها من نافذته لتتدحرج وتستقر بين قدميّ المرأة، التي ردّت فعلته ببصقة كبيرة تلاعبت بها الريح الشديدة، وصلت شراذمها لوجهه، فضحك وقد استقرت على وجهه نظرة غريبة، بعدها ختم حديثه بمأثورته التي عرفها وسمعها من عاصره من طلاب كليتيّ التجارة والحقوق: هكذا هي الدنيا، إن حَلَت أوحلت.
قلت أمازحه: من الأفضل أن تركز على الطريق، فالمغرب أوشك، الظلام حلّ سريعًا، ونوافذ سيارتك متهالكة مثلك، ينفذ من شروخها البرد كرصاص.
فالتفتّ إليّ بنصف جذعه، ابتسم فلمعت بقايا أسنانه في كهف يضرب الظلام بداخله، أنت لازلت صبيًّا،لم يعرف الحياة بعد، قالها، ثم داس بقوة ببطن سيارته العتيقة، فاندفعت في جوف العتمة، من بعيد يأتينا خوار أبقار وماشية، كدليل يصحبنا في رحلة العودة.
طبعة ثانية
الآن نمّ قرير العين، فثلاث ساعات هانئة تفيض سعادة، تكفي يومك بل شهرك الحالي وما سبقه من أشهر، قالها لنفسه بعدما استوى على كرسيّه، أومأ للسائق بموافقته على دفع أجرة الكرسي المجاور على أن يظل خاليًا.
كانت السيارة تنحدر بطريقها للجنوب، يجلس جوار السائق، يفصل بينهما صندوق ورقيّ يحوي طبعة ثانية من روايته الثانية، يرجو من داخله أن تتلوها أخريات، أخرج نسخة، تحسّس غلافها اللامع، أسند رأسه لظهر الكرسي، أبصر الرمال الشاسعة على الجانبين، غاب بقلبه بين الأودية والشعاب البعيدة.
أغمض عينيه برهة ثم فتحهما ليجدها بجواره بوجهها الصبوح، بهلالين يستقران على عينيها.. لم يجد وقتًا للدهشة إذ تحسّست شعره الخشن، داعبت شاربه الذي تطايرت شعيراته بفعل الرياح الشديدة خارج السيارة الأجرة..َ هّمَّ أن يسألها: كيف جئت إلى هنا؟ لكنه عَدَل عن سؤاله، أمسك براحتها، وجدها دافئة تضج بالحياة، فاقترب حتى طبع قُبلة على جبينها ثم تسلّل لشفتيها، تلك لحظة فارقة بحياته، إذ يُدرك أن بوجودها تتهاوى الأستار والحُجب ويصبح الكون مكتفيًا بهما ويكتفيا هما به.
لكن ظل السؤال يلح على خاطره، يؤرقه حتى انحلّت عقدة اللسان، فسألها من جديد: كيف وصلتِ هنا؟ رددّ الصدى سؤاله، كرّره وراءه مرّات لكن طال انتظاره لإجابة، تاهت معالم كل شيء بجواره تحت وطأة ابتسامتها الشقية.
دام إبداعك كاتبنا المتمكن محمود حمدون.
إعجابإعجاب