اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
يبدأ إدراك الفرد لوجوده والتأكد منه.. بأن يُقْبَل أولا بشكل جيد.. تحتضنه الأم وترعاه وتمده باحتياجاته، ويرى السرور في عينيها لأنه موجود.. إن لم يحدث هذا للطفل يظل يشعر برعشة في وجوده طوال حياته، تلك الرعشة التى تؤدي به إلى الشك في نفسه أولًا، ثم الشك في جميع من حوله من موجودات سواء كانت: أشخاصًا، كائنات، جمادات كالنار ـ مثلًا أو الماء، أو حتى المخدة التى ينام عليها، (أعراض الوسواس القهري).
صديقة لي ملأ حياتها الشك لهذا السبب: (عدم القبول).
كنت أصغي إليها ولكنني لم ألتفت إلى عذابها إلاّ عندما أعطتني أجندة مذكراتها. فضاء متشابك على نحو عشوائي من الكلمات الفظيعة، الرسوم المفجعة لوجوه ممزقة، عيون تقطر دمًا، وأفواه مفتوحة كأنها تطلق صراخ الأبدية.. تسمرت أمامها، وعندما نظرت في عينيها رأيت الفجيعة. كأن أجندتها مرآة لداخلها.
وأنا اقرأ، كانت روحي تنتشر على الورق، وما من جسر أعود عليه إلى عالمي. هل كانت آلامها العظيمة أهون عليّ من الموت الذي يتسلل إليّ؟ يبدو أنها رأت خوائي، فأرادت أن تتشظَّى بداخلي.
لماذا أنا ياصديقتي بالتحديد، أعرف أنك لا تأمنين لأحد.. هل لأنني ممزقة من الداخل مثلك، ممزقة حتى العدم!!
أعرف أن الممتلئين بالجروح والتشققات يبحثون دائماً عن فراغ في وجود ما كي يتربعوا بداخله، وها أنا أحمل فراغًا قادرًا على ابتلاع الشيطان، فراغًا مذعنًا لتشوهاتك التي تسقطينها في روحي.. صحيح أنني كنت أقاوم بعقلي.. بعقلي فقط لأن (لاوعيي) أسير لديك، هكذا كنت مع “صاحب الشروط” يقول لي: أنتِ (ميدوسا) التي تخرج ثعابين من شعرها فأصدق، وأبيت أحلم بذلك وتقولين: أنتِ (ليليث) التي أتت من آخر البلاد لتأكل أطفالي فأصدق، وأتلوى من الألم برغم معرفتي العقلية بالتشوهات المريعة التي تحملينها ثم تسقطينها عليّ.
مالي أنا وأمك التي لم تتقبلك منذ مولدك وكيف أنها تفرق في المعاملة بينك وبين إخوتك، قلتِ لي أيضًا: إنكِ لا تتذكرين حضنًا واحدًا لها. أعرف أن احتضان الأم لطفلها هو أول تجمعات الكائن، أول إدراكه لوجوده ككل، فالطفل عندما يولد، يكون مفككًا تمامًا لا يدرك أن ذراعيه يخصانه ولا يعرف أن ساقيه هما له.. وحده حضن الأم هو ما يلملم ذلك الشتات. صحيح أنك لم تشرحي ذلك في مذكراتك لكنني فهمت عندما قرأت لكِ تلك السطور:
“.. لقد عانيت طويلًا حتى أحمي تلك الروح المسكينة من العبث بها.. كانوا يجرونها عنوة للعب مع الصغار من أمثالها.. كنت لا أحب اللعب – لم تدر أمي أن الفراغ الذى عبّأتني به لا يصلح للعب. تلك السمراء التي أنْجَبتْها لا تصلح للعب. هكذا يا أمي، أنكرتِني لمجرد أنني سمراء أشبه أبي!! لقد قُلتِها بعظمة لسانك مرات ومرات، لم يكن أبي معي ليذود عني البياض اللزج الذي تفخرين به عليه.. هذا الأسمر الذي أرسلتِ به خارج البلاد كي تعيشي في فيللا يرعى فيها البياض.. لن ألعب مع صغارك يا أمي، و لن أملأ وحشة هذا المكان بالضحك والصراخ .. لم تسألي نفسك يوما: لماذا ظللتِ هكذا مهجورة وبائسة.. لعلك اخترتِ هذا بإرادتك.. نعم، فلم يكن هناك زوار ولا أصدقاء يطرقون باب بيتنا.. كان الخلاء وحده هو الذي يحيط بالمكان ويصعق روحك ببياضه اللا نهائي”.
تلك السطور أحدثت في روحي وحشة غريبة لأن هناك بالفعل أمهات يستطعن أن يبنين داخل الروح غرفة مظلمة وباردة، مليئة بالأشباح والأعين التي تراقب. كانت صديقتي تشعر أن هناك أعين تراقبها وتتبع خطواتها، كانت تتصل بي صباحًا وتصرخ في أذني “لا أستطيع أن أخرج من البيت، لا أستطيع أن أمشي في الشارع، هناك أعين كثيرة تراقبني وتتبع خطواتي”.
ولم تكن محاولاتي تنجح في تهدئتها إلاَّ أنني عندما أذهب إلى العمل تكون قد سبقتني هى إلى هناك.. أراها تقف عند مكتبي كطفلة تنتظر وصول أمها – كان انزعاجي الشديد منها بسبب ذلك الالتصاق الطفلي الذي لم أتحمله كثيرًا، كنت أفهم أنها تراني (الأم التصورية) الأم التي خلقتها في ذهنها وظلت تبحث عنهاً.
نادتني مرة وكنت جالسة على مكتبي، ثم ذهبت بي إلى الحمام وارتمت في حضني وهي تشهق بشكل مفاجئ ودون سبب، وقتها خفتُ من سوء الظن وأبعدتها عني، ثم أمسكتُ بيدها وخرجت بها من الحمام وأنا أحدثها بشكل جدي وبارد، لاحظت ساعتها أن جميع أقنعتها، التي كانت تختبئ وراءها في مكان العمل، من الصرامة والهدوء والإتيكيت تساقطت فجأة ووقفت عارية تمامًا أمامي وهذا ما أفزعني. خفتُ أن يراها الآخرون هكذا، ثم أنني لن أسمح لروحي أن تتعرى ـ أيضًا ـ أمام الجميع، لقد أرادت صديقتي أن تشق جوفي وتختبئ بداخله، لكنني لم أسمح، بدأت أفكر في الانسحاب من حياتها، ولكن، عندما كنت أعود إلى البيت، كانت تطاردني باتصالاتها التي لا تنتهي، لتصب جحيمها في رأسي، نصف مكالماتها هي مديح لي حد العشق. كيف أن الله أرسلني لنجدتها، ونصف المكالمات الآخر، اتهامات ليس لها مثيل وكيف أن الشيطان أرسلني من البلاد البعيدة كي أفعل بها ما فعلته!! إنني أمسك بمشرطي الصدئ لأشق به وجودها، وأفضحها بين الناس، فهي من يوم أن قابلتني انشقت إلى اثنتين، ولم تعد قادرة على إخفائهما تحت قناع واحد كما كانت تفعل في السابق.
بالطبع كان لديها كل الحق. فصاحب هذا الوجود البارانوي، المصاب بعقدة الاضهاد، هو اثنان بالفعل ما إن تراه من الداخل وتكشف عن تشوهاته حتى تشطره إلى اثنين. أحدهما ضعيف وبائس وفي أشد الاحتياج إليك والاختباء بداخلك، والآخر متجبر وشرس يريد أن يقتلك لأنك فضحت أمره، يعشقك ويكرهك في آن، فأنت ملاذه الوحيد وفي نفس الوقت عدوه الأوحد.
إنه لشعور فادح أن يكون الإنسان اثنين معاً، يحارب بعضه بعضًا، ويخبيء بعضه بعضًا، إنه (الفصام البارانوي) اثنان معًا، أحدهما حقير والآخر عظيم.
كانت مأساتي معها أنها تذكرني (بصاحب الشروط)، ذلك الرجل الذي كان يصحو من نومه ليبحث عني ويجدني مختبئة داخل حجرة ابنتي، يقف أمامي وأنظر إليه دون أن أدري: أي الشخصيتين سأتعامل معها اليوم!! الضعيف البائس الطيب، أم العظيم المتجبر الشرس؟ هكذا كانت هي الأخري عندما أقابلها أو أتحدث معها على التليفون؟.
كان شعور بالرعب يفككني ويمنع هضمي وتمثلي للشخصيتين برغم تعاطفي معهما، فأزداد خواءً على خوائي.
دائماً ما يؤدي تجاهل الأم لوليدها إلى الشعور بالحقارة والعدمية، ودائمًا ما تؤدي السلوكيات التعويضية لذلك الابن إلى الشعور بالعظمة والتضخم كما فعلت صديقتي في تفوقها الدراسي طوال عمرها، لكنه لم ينتبه لذلك التفوق ولم يصفق له إلاّ أبوها المغترب دائمًا.. كانت تنتظره بالشهور لتتأكد من وجودها وأهميتها بالنسبة له، لكن حضور الأم كان أقوى ـ بالطبع ـ لينغرس هذا الإحساس بالضآلة في وجودها الكلي.
سألت مرة معلمي الروحي: لماذا يفزع (البرانوي) من رؤيته من الداخل، لماذا يضع كل تلك الدروع والحواجز بينه وبين الآخرين؟
قال: لأن الداخل لديه فأر ميت وتلك فضيحته.
أفهمك الآن يا صديقتي كنتِ تشكين في أنني سوف أفضح أمرك بين الزملاء، وكنتِ تهدديني بالقتل إن أنا فعلت هذا، كما عيَّرتني بالجرح المتبدي على وجهي إثر حادث قديم، لتشعريني أنا الأخرى بالضآلة، فتأمني شري، ومع ذلك كان احتياجكِ إليّ أشد من خوفكِ مني. حكيتِ لي عن الحب الذي طرأ في حياتك لمديرك المباشر ذي الشعر الأبيض، وكنتِ تستخدمين المجاز كثيرًا في وصفك لسحر الشعر الأبيض:
“إننى أغرق فى بحور من الفضة كلما رأيتُه.. ذلك الشعر الأبيض الذي يتسلقنى ويحيط بي كشجيرات ياسمين” لم يكن هذا المجاز فيما تكتبينه فقط داخل مذكراتك، بل كان أيضًا في اللغة التي تكلمينني، بها وتحكين لي عنه.
“لو تعلمين؟ هو ـ أيضًا ـ جرح يختبئ تحت جلدي.. ماذا أقول لك ؟ إن هذا الرجل يجلدني بنظراته كل يوم.. لا يتعب من إهانتي أبدًا.. لماذا يظن بأنني أخون زوجى.. أنا لا أريد شيئا سوى هذا الياسمين الذى يتنهد في روحي، إنني أتصالح مع العالم، أنسكب عطرًا وضوءًا بين أحضان زوجي كلما ابتسم في وجهي ذلك الرجل”.. هكذا كانت تحدثني عن الرجل ذي الشعر الأبيض الذي أحبته، ويبدو أن تلك اللغة المجازية جعلتني لا أصدق هذا الحب، ولا أشعر بها عندما تتكلم واعتقدت في البداية أن هذا الشعور هو تعويض عن غياب الأب، كما يقول التحليل الفرويدي، لكن المعلم الروحي كان يرى أن تلك مناورة، فهذا النوع من الشخصيات يهدف إلى الإخفاء والإعلان في وقت واحد، فالعالم بالنسبة له ملئ بالأعداء.. كالغابة تمامًا، فنجد ـ مثلًا ـ أن الكشاف في الغابة إذا أراد أن يعلن عن وجوده ويخفيه في آن.. فإنه يوقد نارًا ويتركها ويجلس بعيدًا، هكذا صديقتي تختبئ وراء موضوع الشعر الأبيض، توهمنا بعقدة أليكترا الشهيرة لكنها أوعى من ذلك، أوعى من فكرة العذراء والشعر الأبيض التي تصورتُها في البداية.. إنها تُخبئ وجودها العدمي عنا، وفي الوقت ذاته تصيح، تعلن عن وجودها.
على ضوء هذا التفسير، رأيت أن موضوع الاختباء والإعلان هذا يكمن ـ أيضا ـ في اللغة المجازية التي تتكلم بها حتى في حياتها العادية، فالمجاز في اللغة.. حفرة للاختباء وإعلان في ـ الوقت ذاته ـ عن القدرات والمهارات والوعي الذي يتكلم به صاحبه. أدرك الآن أن الأدباء والمبدعين المُغرقين في استخدام المجاز هم أناس لا يقدرون على الظهور بحقيقتهم وكليّتهم، وفي الوقت ذاته لديهم رغبة صاخبة في الظهور.
هذا الصراع بين الوجود والعدمية هو الذي أدَّى بصديقتي ـ أيضًا ـ إلى أن تفعل ما تفعله كلما خلت إلى نفسها.. كانت تدخل الحمام وتمسك بموس الحلاقة وتشرِّط به جسدها ليهدأ الألم النفسي، أعتقد أنها كانت تتأكد من وجودها الحي بهذه الطريقة، فالألم ورؤية الدم الذي ينثال من فخذها وذراعها يؤكد لها ذلك الوجود.
سألت معلمي الروحي: هل كانت تلك الطريقة تكفيرًا عن ذنب ما؟ عن حبها للرجل ذي الشعر الأبيض؟ أجابني: لا.. فحبها لهذا الرجل ليس بذنبٍ في ضميرها، فهي في مرحلة نمو ما قبل جنسية، هذا النوع من الوجود طفلي لأبعد الحدود، الذنب الحقيقي في طريقة حياتها، في تعاملها مع الآخرين فهي ترتدي أقنعة ودروعًا حديدية صلبة كي تداري وجودها الهزيل، وعندما تختلي بنفسها تشعر أنها كانت تكذب طوال الوقت، فتنهال على جسدها بهذا العقاب.
أعلم أن التأكد من الوجود العدمي يخرج دائمًا في أشكال مرضية فهذه صديقتي تجمع الشهادات العلمية الكثيرة دون أن تفعل بها أي شئ، فهي مثلًا: حاصلة على ليسانس آداب وليسانس حقوق وبكالوريوس تربية.. سألتها: لماذا لا توفرين هذا الجهد وتأخذين به شهادة الدكتوراه في تخصص واحد فلم تجب.. أعتقد أنها كانت حريصة على أن تظل تلميذة طوال عمرها كآلية لا واعية لتوقف نموها النفسي، كذلك لتتأكد من وجودها ويتم الاعتراف بها والتصفيق لها في كل مرة، هناك أناس لا يشعرون بوجودهم إلاَّ إذا صفقت لهم وأظهرت إعجابك الشديد في كل جملة ينطقون بها.
وبرغم هذا الفهم العميق لصديقتي، ولما كانت تفعله، وبرغم موافقتها لي في أحيانٍ كثيرة على كل تلك التفسيرات، فهذا النوع يتميز بفهمه العميق للأمور، ولطالما أطلق عليه المعلم الروحي (برانوي عظيم) فأغلب التحولات التاريخية لم تحدث إلاّ على يد (برانووين عظماء) إلاّ أن العوالم الخيالية والأسطورية التي تسكن هذا النوع، تتغلب عليه في كثير من الأحيان فيساوره الشك في كل الواقع المحيط به. وهكذا أرسلت صديقتي هذه الرسالة إليّ عند بداية ترددها على الطبيب النفسي:
“.. لدى شعور غامض بحياكة مؤامرة.. لماذا تصرين على أن أمضغ الزجاج المسحوق الذى انغرس فى وجهك منذ زمن؟ كنت أرى بؤسك فى بداية لقائي بك. وبالتأكيد هذا ما أغراني.. أن أنسكب أمامك هكذا.. أنت محترفة فى اصطياد الألم.. أعترف لك، ولكننى لن أسمح بأن تتغذى على ما يخصنى منه.
مالك أنت إذا كنت أحصل على الشهادات كل عام؟ مالك أنت إذا كانت دراستى أفقية وليست رأسية؟ من قال لك إننى أرغب فى تلك الدكتوراة اللعينة؟.
معك حق.. فلقد سلمتك بنفسي مفاتيح أسراري.. عريتُ لك جرحى ولم ترحميني وأخذتِ تنبشين فيه بأظافرك.. مدعيةً أن تلك طريقة جديدة في مداواة الجراح.
لا أنكر أنك دللتني على الطبيب، ولن أغفر لك أنك دللتنى عليه، وأحمد الله أننى لم أتورط معكما في مؤامرة على قلبى المسكين.
أليس للقلب حق في الوجع؟ ألا يعلم طبيبك هذا أن الحزن مشاع للجميع؟ لماذا تصران على اتهامي به وكأنني ضمن حزمة المجانين الذين ترسلين بهم إليه.
لقد دفعتنى إليه دفعًا، ولم أكن أعرف أنكما تنزفان جليدكما فى أرواح المتعبين.. لقد خدعت – نعم خدعت”.
يالله !! هذا الشك الوجودي العنيف في نفسك وفي الآخرين يكون سببه.. أنك لم تُحتضن جيدًا وأنت طفل، لم يُباهىَ بك أمام الآخرين لأنك لست جميلًا في عين أمك ويا ولداه!! تظل تبحث طوال عمرك عن وجودك الضائع بحيل مرضية عنيفة تدمرك وتدمر من حولك.
رائع جدا ا. فردوس
إعجابإعجاب