هناء غمراوي
اللوحة: الفنانة السعودية فاطمة المطر
أمس، أمضيت ساعات طويلة في مذاكرة ومراجعة بعض دروس اللغة الانكليزية التي أتابعها أونلاين من خلال صفين مختلفين ومستويين مختلفين، ومع مدرستين مختلفتين أيضا. فقد بدأت مرحلة “جهادية” جديدة من حياتي وقررت فيها التغلب على جهلي في مقاربة هذه اللغة ومحاولة الإمساك بقواعدها وأصولها؛ محادثة وكتابة. وهذا يتطلب مني إضافة إلى الالتزام بحضور الدروس، ممارسة بعض التطبيقات العملية من خلال إجراء المحادثات، قراءة النصوص، والاستماع إلى بعض الأغاني. وذلك بحسب نصائح وتعليمات السيدة لورا، مدرسة المستوى الثاني؛ وهي إنسانة رائعة بكل المقاييس…وهذا ما لم أستطع الالتزام به لأن قراءاتي ما زالت مقتصرة على اللغة العربية فقط. بحيث أصرف الساعات الطويلة في قراءة الرواية والشعر، قديمه وحديثه دون أي كلل أو ملل.
بعد مضي ساعات طويلة في المذاكرة، قررت أخذ قسط من الراحة بالاستماع إلى بعض الموسيقى. وكانت المخالفة الأولى؛ فقد عمدت إلى هاتفي فتحت اليوتيوب واخترت احدى أغاني محمد عبد الوهاب التي أحب سماعها من وقت إلى آخر. لحظات، انبعثت موسيقى الأغنية وظهرت صورة عبد الوهاب على شاشة التلفاز مرفقة ببعض الكلمات التي تبين اسم الأغنية وكانت قصيدة: “مضناك جفاه مرقده” مع اسم صاحب اللحن الذي كان بطبيعة الحال، عبد الوهاب نفسه. لم أفكر يوما، من يكون صاحب هذه القصيدة؟ واكتفيت بالاعتقاد أنها إما للشاعر اللبناني الاخطل الصغير، أو لأمير الشعراء الذي غنى له عبد الوهاب أكثر من قصيدة. ولا أنسى رائعته الشهيرة “يا جارة الوادي التي لحنها وغناها محمد عبدالوهاب في منتصف القرن الماضي وغنتها نور الهدى، كما غنتها فيروز أيضا.
كلمات الأغنية ساحرة مغرقة في الرومانسية والتعبير عن الحب العذري. ولو لم أكن متأكدة من اسم صاحبها المكتوب على شاشة التلفاز لنسبتها إلى جميل بثينة او إلى عنترة، إلا إذا سلمنا أن الحب لا يتغير بتغير الأماكن والأشخاص ولا حتى بتغير الزمان.
حيث يقول؛
مضناك جفاه مرقده وجفاه ورحَّم عوده
حيران القلب معذبه مقروح الجفن مسهده
يستهوي الورق تأوهه ويذيب الصخر تنهده
ويناجي النجم ويتعبه ويقيم الليل ويتعبه
***
بيني في الحب وبينك ما لا يقدر واش يفسده
ما بال العاذل يفتح لي باب السلوان وأوصده
ويقول تكاد تجن به وأقول وأوشك أعبده
مولاي وروحي في يده قد ضيعها سلمت يده.
***
ولن يتسع المجال هنا للكشف عن قصيدة شوقي بكاملها طبعاً.
لطالما كان للأدب والشعر دورٌ مهمٌ في حياة الشعوب، ليس من باب اكتساب الثقافة والمتعة والترفيه وحسب؛ بل إن الكلمة كانت في يوم من الأيام حافزأً لقيام العديد من الثورات وحركات التحرر العالمية. وقصة بابلو نيرودا مع الجنود الذين اقتحموا بيته مشهورة حيث أجابهم حين سألوه بحثاً عن السلاح؛ ان سلاحه الوحيد هو الشعر…
وهنا يبرز سؤال مهم؛ وهل تستطيع الكلمة على أهميتها أن يكون لها الأسبقية والأهمية على الموسيقى التي هي لغة الطبيعة، قبل أن يتفق على أنها لغة الشعوب؟
نعم، الموسيقى هي لغة الطبيعة والمعبرة عنها في كل حالاتها منذ الأزل.. هي الدم الذي ينساب في عروقها؛ يغذي الجذور فتورق الأغصان وتزهر الثمار. وذلك من قبل أن يتم اختراع أي آلة موسيقية على الإطلاق.! في صوت حفيف أوراق الشجر موسيقى، وفي زقزقة العصافير موسيقى، صوت الريح موسيقى، وصوت المطر أيضاً موسيقى. تكسر الأمواج عندما تلتقي برمال الشاطئ موسيقى؛ وهذه الموسيقى تكون مختلفة باختلاف حالة البحر؛ فهي هادئة ناعمة عندما يكون ساكنأ في صباحات آب وأيلول. صاخبة هادرة عندما يفصح عن تغير مزاجه في استقبال فصل الشتاء وعواصفه الهوجاء.
لقد رافقت الموسيقى الشعوب القديمة في كافة طقوسها الحياتية؛ من الحزن والفرح، الراحة والعمل، الموت والولادة … حتى أماكن العبادة لم تخل منها، فالموسيقى بالإضافة أنها قادرة على تصوير حالة البشر والتعبير عن حياتهم فهي أيضاً تستطيع أن تنقلهم في لحظات من أجواء الحزن إلى أجواء الفرح، ومن أجواء التوتر والقلق إلى أجواء السكينة والهدوء… وهذه الحقيقة أدركتها الامهات والجدات منذ فجر التاريخ فلجأن اليها لمساعدة الأطفال على السكون والخلود إلى النوم.
كل الكائنات الحية تتأثر بالموسيقى، حتى أن جماعة من العلماء أكدوا على أن بعض النباتات تنمو بسرعة أكثر إذا ما تعرضت لشحنات معينة من الموسيقي.
نعم الموسيقى هي “سر الخلود وسر الوجود ” كما قال جبران. وهي لا شك وعاء الكلام وحافظ له. هل نستطيع أن نتجاهل أن قصائد نزار قباني المغناة أمنت له انتشارا كبيراً في الوطن العربي مضافا إلى شهرته كشاعر مهم ومرموق؟ وهذا ينسحب على غيره من الشعراء الذين لا يقلون شهرة وأهمية. أمثال محمود درويش وخليل حاوي وغيرهم، الذين لحن وغنى لهم مرسال خليفة أجمل القصائد. وهنا تحضرني قصة طريفة حصلت معي منذ سنوات حيث كنت في رحلة ترفيهية مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء إلى الأردن زرنا خلالها عدة أماكن كان من ضمنها البحر الميت. بعد أن قضينا يومنا هناك وفي طريق العودة إلى الفندق في عمان، لاحظت أن بعض المشاركين وبخاصة، بعض اليافعين، ممن تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة وحدود الثامنة عشرة. يتململون ضجراً. الطريق إلى عمان طويل يزيد عن ثلاث ساعات. والطاقة التي كانوا يصرفونها عادة في الرقص والغناء استنفذوها في السباحة. وهنا خطرت لي فكرة فعرضتها عليهم للتو بعد أن سألتهم من منكم يحب الشعر ويحفظ بعضا منه؟ فتجمع حولي بعض الشبان والصبايا غالبيتهم من طلاب المرحلة الثانوية. كما أبدى اهتماما بالموضوع بعض الكبار ممن لديهم ميلاً للأدب عموماً. بدأت أشرح لهم شروط اللعبة فهي مسلية ولا تتطلب الكثير من الجهد؛ اللعبة اسمها “سوق عكاظ” وهي عبارة عن مناظرة عامة في الشعر قديمه وحديثه. يبدأ أحدكم بقول بيت من الشعر مما حفظه والحرف الذي تنتهي به قافية البيت يكون أول حرف في البيت الجديد على سبيل المثال:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن (ن)
نامت نواطير مصرٍ عن ثعالبها فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيد (د)
تحمس المشاركون كثيرا وبدأوا يشحذون الذاكرة لاستخراج ما فيها من محفوظات. إلى أن وصلنا إلى قافية تنتهي بالحرف ياء. ولما كان المشاركون قد استنفدوا ذخيرتهم من هذا الحرف تدخلت بإعطاء بيت من قصيدة الجسر لخليل حاوي يبدأ بالحرف ياء:
يعبرون الجسر في الصبح خفافاً أذرعي امتدت لهم جسرا وطيد (د)
ولم يمهلني أحد رفاق الرحلة (وهو طبيب جراح وكانت ترافقه زوجته وابنته الصغيرة) لأطلب من المشاركين أن يأتوا ببيت من الشعر يبدأ بحرف (د) لأنه صرخ بأعلى صوته؛ غلط: “خفاقاً” وليس “خفافا” فاستغربت تدخله في هذه الطريقة وحاولت أن أوكد له أن كلمة خفاقا لا معنى لها في البيت ولكنه كان مصرا على كلمة “خفاقا ” ولما سألته ماذا يقصد ب “خفاقا “قال: “مرسيل خليفة يغني للمقاومين الذين يحملون الرايات الخفاقة ويعبرون الحدود لتحرير فلسطين. وعندها سألته لمن تظن هذا الشعر؟ أجاب بكل ثقة لمحمود درويش طبعاً.
وكان من غير المفيد اقناعه بعدم صواب ما ذهب اليه، وبأن الشعر هو لخليل حاوي وليس لدرويش وهو يتوجه بهذه القصيدة إلى الجيل الجديد محفزاً إياه على رفض الواقع الذليل وبناء شرق جديد؛ حيث يقول في البيت الذي يلي:
من كهوف الشرق من مستنقع الشرق إلى شرقٍ جديد.
أنهينا السوق وأنا أردد في سري “أتمنى ألا تكون معلوماته في الطب والجراحة مثل معلوماته في الشعر وإلا كانت حصلت كوارث”
هذه الحادثة التي ومضت في فكري الآن لن تغير رأيي حول أهمية الموسيقى ودورها في انتشار القصيد ورسوخه في الذهن.
ليس خيانة مني لتراثي الفني الذي أعشقه، وأفتخر به، ولكن لكي أستطيع الإمساك جيدا بحبال اللغة الانكليزية، سأتبع تعليمات السيدة لورا وسأبدأ من الغد بالاستماع إلى فرانك سيناترا وسيلين ديون، وإلى أدال ومادونا والفيس برسلي. وسأحرص عند الاستماع إليهم أن اقرأ بتمعن كلمات الأغاني حتى لا أقع في الخطأ الذي وقع به صديقنا “الطبيب الجراح “.